(الدين وسؤال الأخلاق)
من المعلوم لدى عقلاء البشر أنّ حياتهم لا تستقيم بدون مرجعية أخلاقية ثابتة مُطلقة مُؤسَّس ع ؛ لأنّ الأخلاق لا تَكتسب فاعليَّتَها وقوّتَها وسلطتَها الحقيقية إلا من كونها صادرة عن مصدر مطلق ثابت وليس نسبي، فالأخلاق تتأسس في النهاية على مبدأ الإلزام، وليس هناك مصدر مطلق ثابت متجاوز قادرٌ على الإلزام الحقيقي إلّا الله عزوجل من خلال كُتبه وأوامره.
والمُلحدون مهما حاولوا الإدّعاء بالقدرة على التأسيس للأخلاق تأسيساً معرفيّاً فإنّها ستظلّ مجرد دعوى بدون بيّنة، فكما يقول الرئيس المفكر علي عزت بيجوفيتش في كتابه الهام (الإسلام بين الشرق والغرب): (يوجد مُلحدون على أخلاق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي). (1)
المقصود من هذا الكلام هو عجز الفلسفة الماديّة الإلحاديّة عن التأسيس النظري للأخلاق تأسيساً حقيقيّاً معرفيّاً، وأنّ المُلحد لا يستطيع الإلتزام بمنظومته المادّيّة ولوازمها في حياته العمليّة فكثيراً ما يخالفها لا إراديّاً بما لديه من رصيد الفطرة البشرية، ومن هنا اُشتهر قولٌ نُسب لبعض فلاسفة عصر الأنوار أمثال فولتير وغيره وهو أنّ الله إذا لم يكن موجوداً وجب على البشر اختراعه لأنّه لولا وجوده لخانت الزوجة وسرق الخادم!، وهذا القول مع صرف النظر عن قائله يُشير أيضاً إلى العجز التام للمنظومة الإلحاديّة عن التأسيس للأخلاق وجوديّاً (أنطولوجيّاً) ومعرفيّاً (إبستمولوجيّاً)..
إنّ الدافع النظري الوحيد للإلتزام بالأخلاق الحقيقية الأصيلة هو الإيمان بالله، وإلّا فما معنى أن يخالف الإنسان طبيعته وغريزته في حب التملك والمصلحة الشخصية والإنتفاع بما عند الغير حتى لو بالسرقة والخيانة والقتل؟! في الحقيقة ليس هناك دافع أو سبب علمي لذلك إلّا الإيمان بالله لأنّه حتى الفطرة البشريّة السليمة التي تدفع الإنسان لفعل الخير وعدم إلحاق الضرر بالآخرين ليس لها تفسير أيضاً إلّا الإيمان بالله الذي أوجدها في الإنسان وجوداً ضروريّاً.
حديثي هنا عن إمكانيّة التأسيس النظري للأخلاق من الناحية الوجوديّة الأنطولوجيّة (بمعنى هل توجد أخلاق حقيقية أصلاً؟)، وهذه تُؤسّس لها الفطرة البشرية كالمعاني العامة من حب الخير والعدل والحق ثم يُؤكّدها الدين والوحي المُنزّل من الإله.
ما أعنيه هنا في حديثي عن الأخلاق هي الأخلاق من الناحية الإبستمولوجية المعرفية حيث المعرفة التفصيلية لجوانب الخير والعدل والحقّ، وإلحاق هذه القيم الكلية والعامة والمُطلقة بأفعال وأقوال بعينها (بمعنى ما هو السبيل إلى معرفة تلك الأخلاق الحقيقية؟)، وهذا لا سبيل أيضاً لمعرفته إلّا من خلال الوحي والدين، فالعدل مثلاً كقيمة عامّة هل له وجودٌ أصلاً؟، وهل يمكن التأسيس له في ظل الفلسفات والتصوّرات المطروحة؟، فإذا انتهينا من الإجابة على تلك الأسئلة الوجودية الأنطولوجية نشرع في طرح الأسئلة المعرفية الإبستمولوجية مثل: ما هي تجلّيات وتحققات العدل في الحياة؟، وكيف يمكن وصف فعل معين بأنّه عادل؟
في الحقيقة لا شئ في النهاية سوى الدين يُعطينا تلك المعايير الأخلاقيّة والجماليّة، بل حتّى العلم الحديث فشل في إيجاد تلك المعايير لكونها خارج مجال البحث العلمي من الأساس.
إذن هناك حاجة أكيدة لدى البشر للوصول والتعرف على رسالة الله من أجل التأسيس لوجود الأخلاق المطلقة تأسيساً علميّاً حقيقيّاً، ولتأكيد تلك المعرفة الفطرية الضرورية الكامنة في الضمير البشري، ولبيان أوجه الصواب والخطأ على نحو تفصيلي والتي لا سبيل لمعرفتها إلا من خلال مصدر مطلق واسع مجاوز لإطار الزمان والمكان الضيق يرتقي بالبشرية فوق حالة السيولة والنسبية الأخلاقية..
…………………………..
(١) انظر: كتاب الإسلام بين الشرق والغرب (ص 175).