جواب شبهة تناقض القدرة الإلهية

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

من أشهر صيغ هذه الأسئلة التي تسعى إلى إيجاد تناقضات وإشكاليات في مفهوم الله نفسه سؤالهم الباطل: هل يستطيع الله أن يخلق صخرة لا يقدر على حملها؟ أو هل يستطيع الله أن يخلق إلهًا غيره؟ وهو ما يعرف باسم تناقض القدرة الإلهية Paradox of Omnipotence، ويهدف إلى توليد إشكال في مفهوم قدرة الله المطلقة بما يجعله ذريعة إلى القول باستحالة فكرة الإله نفسها.

فالله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وقدرته مطلقة لا يقيدها شيء، لكننا في الحقيقة نستعمل كلمات القدرة وعدم القدرة والاستحالة بصورة مرتبطة بقدرات وإمكانيات الفاعل وليس بحقيقة المفعول، كيف هذا؟

إذا سألتني مثلاً: هل تستطيع أن تحضر لي كتاب (شرح العقيدة الطحاوية)، فسوف أجيب بأني لا أقدر على هذا لأني خارج المنزل مثلاً، لكني إن بلغت المنزل سأكون قادرًا على إحضار الكتاب، وإذا كنت مريضًا ولدي مشكلة طبية خطيرة في عينيّ تطلبت تغطيتهما بالضمادات، فسوف أجيب بأني لا أقدر على إحضار الكتاب، لكني ربما استطعت بمساعدة أهل بيتي أو حتى بعد شفائي من المرض. في هذا المثال عدم القدرة أو الاستحالة مرتبطة بي وبإمكانياتي وبقدراتي.

حسنٌ، ما رأيكم لو انتقلنا لمثال آخر؟ هل يمكن لي أن أضع قطعة من الشكولاتة داخل صندوق الحلويات وتظل خارجه في نفس الوقت؟ أظن الإجابة ستكون أن هذا غير ممكن، لماذا؟ لأن هذا الأمر متناقض في ذاته وبالتالي فهو مستحيل جوهريًا. هنا عدم القدرة أو الاستحالة ليست متعلقة بالفاعل، بل بالمفعول نفسه، فهو مستحيل وغير ممكن وغير مقدور عليه لأي فاعل مهما بلغت قدرته في أي عالم من العوالم وتحت أي ظرف من الظروف.

نخلص من هذا أن الفعل المستحيل أو غير الممكن أو غير المقدور عليه قد يكون كذلك (1) إما بالنسبة إلى الفاعل، أو (2) بالنسبة إلى المفعول. والله جل وعلا قادرٌ على كل شيء، أما الأمور المتناقضة ذاتيًا وجوهريًا فليست بشيء، بل هي مستحيلة بأي اعتبار، لهذا يقول أبو العز الحنفي رحمه الله: ((وأما أهل السنة : فعندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته، مثل كون الشيء الواحد موجودًا معدومًا في حال واحدة، فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئًا باتفاق العقلاء، ومن الباب خلق نفسه، وإعدام نفسه، وأمثلة ذلك من المحال))[1]. وطالما هي مستحيلة في ذاتها، فلا تتعلق قدرة الله تعالى بها ولا يقال هل يقدر الله عليها أم لا، لأن وجودها في نفسه مستحيلٌ وغير ممكن، ومن أمثلتها: هل يستطيع الله أن يمنح زيدًا نعمة البصر ويحرمه منها في نفس الوقت فيكون أعمى ومبصرًا معًا؟ هل يستطيع الله أن يمنح الإنسان القدرة على الطيران في الجو ويحرمه منها في نفس الوقت فيكون قادرًا وعاجزًا معًا؟ طبعًا، هذه الأسئلة عبارة عن هراء مثل سؤال خلق الصخرة التي لا يقدر الله على حملها، والله جل وعلا لا يفعل الهراء.

وللمزيد من البيان والتوضيح أضع لك عزيزي القارئ نص جواب اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد حيث أنه من الأجوبة النموذجية في هذا الباب.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين….وبعد:

بأمثال هذه الأسئلة غير المعقولة واللامنطقيّة يحاول الملاحدة التشغيب على المسلمين ليُدخلوا في قلوبهم الوهن في معتقدهم بالله سبحانه وتعالى وبكمال أوصافه وجمال نعوته، فينشغل من لا حظّ له من العلم النافع والعمل الصالح فيما لا فائدة فيه، ويُفرغون أوقاتهم الثمينة في مسائل لا طائل من ورائها، في الوقت الذي يتناسون فيه هشاشة الإلحاد وبناءه القائم على شفير الأوهام والخيلات، والكذب والافتراءات.

إن السؤال السابق داخلٌ ضمن جملة ما يُسمّى بالمتناقضات (Paradoxes) وهي مجموعة من الأسئلة التي تحتوي على متناقضات، فلا يمكن الإجابة عليها بالنفي أو الإثبات، لأنها في الأصل أسئلة خطأ مغلوطة.

وفي الواقع الكثير من هذه الأسئلة المتناقضة، ونقتصر على سبيل الإيجاز على الأمثلة التالية:

المثال الأوّل: سنرمز للجملة التالية بالرمز (أ) فنقول:

(أ): العبارة (أ) خاطئة، فهل العبارة (أ) صواب أم خطأ؟

هنا نقع في التناقض Paradox، لأن العبارة (أ) لو كانت صواب فهي خطأ، وإن كانت خطأ فهي صواب.

المثال الثاني: سؤالنا: هل تستطيع أن تتكلم بصوتٍ مسموعٍ لا يُسمع، كذلك نقع هنا في التناقض، إذ كيف يكون الصوت مسموعاً وهو لا يُسمع في ذات الوقت؟

المثال الثالث: سؤالنا: هل يستطيع الله بقدرته الكاملة أن يكون بلا قدرةٍ كاملة؟ وهنا ينقض أوّل الجملة آخرها.

إذن فأمثال هذه الأسئلة لا جواب لها، وعدم الإجابة عنها لا تعني بأن المسؤول عاجزٌ عن الإجابة عنها، بل الشأن كلّه في خطأ السؤال نفسه.

إذا أدركنا ذلك، فيمكننا تحليل السؤال السابق لنقف على وجه التناقض فيه فنقول: هذا السؤال يمكن كتابته بطريقة أخرى: (هل يستطيع الله أن يُعَجِّز قدرته بقدرته ؟؟)

والتناقض إنما هو في الجمع بين الضدّين، فكيف يكون الخالق سبحانه وتعالى كامل القدرة في الوقت الذي ليست له قدرةٌ كاملة؟ تعالى الله عمّا يقولون علوّاً كبيراً.

إن أوّل الجملة التي وردت في السؤال تُثبت أن الله قادرٌ على كلّ شيء، وآخرها يسأل عن قدرته على خلقِ صخرةٍ يعجز عن حملها، والعجز عن حملها هو نقصانٌ في القدرة، فنقضَ أوّل الجملة آخرها.

ونحن نعلم أن الله على كلّ (شيء) قدير، لكنّ القدرة لا تتعلق بالمستحيل (والاستحالة المقصودة في مثالنا هو الجمع بين الضدّين في الوقت نفسه والجهة نفسها)، فإن الله قادر على كل (شيء)، والمستحيلات والممتنعات ليست بــ (شيء)، ولهذا فالله قادر على كل ممكن، وأما ما هو مستحيل فلا يصح أن تتعلق به قدرة الله تعالى لأنه ليس بشيء حتى تتعلق به قدرة الله تعالى .

ولا يقال عن المستحيل أنه شيء إلا بمعنى أنه شيء في الذهن لا في خارج الذهن، وكلامنا هنا عن الإمكان الخارجي لا الذهني .

فتبين بهذا بطلان السؤال عن تعلق قدرة الله تعالى بالمستحيل، وهذا البطلان لكون المستحيل ليس بشيء أصلًا لأنه مستحيل، ولو تعلقت به القدرة لما كان مستحيلًا ولكان شيئًا ممكنًا تتعلق به القدرة.

وإذا كان الفرض أنه مستحيل، ثم تعلقت به القدرة لصار ممكنًا لا مستحيلًا، فبطل الفرض الأول بأنه مستحيل.

فإذا قال قائل: (قدرة الله محدودةٌ في الممكنات) بيّنا له بطلان قوله؛ فإن عدم تعلّق قدرة الله بالمستحيل فذلك ليس لعدم القدرة وإنما لعدم ما تتعلق به القدرة الثابتة .

وهذا كما أن علم الله ثابت وشامل، إلا أن عدم علمه بوجود رب خالق غيره لا يعني نقص العلم وإنما يعني عدم المعلوم في نفسه أصلًا ( أي عدم وجود خالقٍ آخر غير الله) فلا يتعلق علم الله به .

فكذلك عدم تعلق قدرة الله تعالى بالمستحيل ليس لعدم القدرة بل لعدم المستحيل في نفسه أصلًا فلا تتعلق قدرة الله به .

والله تعالى أعلى وأعلم.[2]


[1] أبو العز الحنفي ، شرح العقيدة الطحاوية ، دار ابن رجب ص90

[2] اللجنة العلمية ، سألوا فأجبنا ، منتدى التوحيد على هذا الرابط :

http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?27664

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد

‎مؤخرة الموقع