ثم نحن إذا تأملنا في السؤال نفسه ظهر لنا بعدٌ آخرٌ:
فإن تمني العدم ليس إلا محاولة نفسية للهروب من الفشل والإحباطات، كمن يصيبه الضرّ في الدنيا فيعجز عن الصبر والتحمل فيتمنى الموت هربًا من المسؤوليات والأعباء. فهذا الذي يرجو عدم الخلق والإيجاد إنما يعكس حالة من التضجر والتسخط والإحباط وغيرها من المشاعر السلبية التي تدفع المرء إلى إلقاء تبعة إخفاقاته على خالقه وموجده، فهو ساخطٌ ناقمٌ على واقع العبودية لله جل وعلا، ويدرك أنه عبدٌ لله شاء أم أبى، لا يستطيع الفكاك من هذا الواقع، وفي نفسه كبرٌ على عبادة الله وبغضٌ وحنقٌ، فلا يجد من هذا كله مخرجًا إلا تمني عدم الإيجاد وعدم الافتقار إلى الله!
لكنه مفتقرٌ إلى الله افتقارًا لا مثيل له؛ في وجود نفسه، وفي النعم العظيمة مثل السمع والبصر والكلام، وفي نعمة الرزق من طعام وشراب، بل حتى نعمة الهواء الذي يستنشقه ولا يستطيع الاستغناء عنه دقائق معدودة!
وهذا كله يزيده حنقًا على حنق، وضيق صدر فوق ما هو فيه!
فلا يجد من هذا فكاكًا حتى بالموت!
فيقول: لماذا أنا موجود من الأصل؟!
وحقيقة السؤال: لماذا أنا عبدٌ مخلوقٌ مربوبٌ؟!
ويتطور الأمر إلى حالة من الحنق والغضب واتهام الله تعالى لأنه خلقه على هذه الصورة من العبودية والذل، فيتبجح قائلا: لماذا لم يستشرني الله قبل خلقي؟!
والحقيقة أنه لو توقف قليلاً وتأمل ونزع عصابة الكبر عن عينيه، لأدرك أن هذا أدعى للشرف والرفعة أن أكون عبدًا لله العظيم الكبير المتعال الذي تخضع له السماوات والأرض والملائكة وجميع المخلوقات، القاهر العزيز الجبار، عن أن أكون نتاج صدفة عبثية عمياء خرقاء لا غاية لها ولا معنى، وليس لي إرادة إلا ما تمليه التفاعلات الكيميائية في خلايا مخي!
لكن هذا الجاهل المستكبر لا يقبل أن يكون عبدًا لله، وطالما أنه ليس هناك موجود -خلا الله- في هذه الدنيا إلا مربوبٌ لله، فهو يرفض أن يوجد أصلاً، ويفضل العدم على العبودية لله!
ولو أنصف لأدرك أن العبودية لله ليست كالعبودية لأحد من المخلوقين؛ فالعبودية لله شرفٌ ورفعةٌ، كمن يتشرف بانتسابه إلى عائلة حسيبة شريفة أو بانضمامه إلى مؤسسة عظيمة عريقة أو بعمله مع أحد ذوي الجاه والنفوذ، ولله المثل الأعلى، كذلك انتساب المسلم لعبودية الله سببٌ للفخر والعزة. فهي ليست عبودية إلا للعظيم الجليل الكبير المتعال المستحق للعبودية دون غيره ممن لا يستحقونها.
فمن تكبر على هذه العبودية أتاها رغم أنفه، كمن يعمل لدى واحد من ذوي النفوذ والجاه والسلطان، لا يستغني عن راتبه، ولا يستطيع أن يخالفه خشية العقوبة والنكال والإيذاء، ولله المثل الأعلى، فهو عبدٌ شاء أم أبى، طوعًا أو كرهًا، لا يقدر أن يستغني عن نعم الله التي لا تُحصى، ولا يتحمل أن ينزل به عقاب الله في الدنيا والآخرة!
قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} ، فهل يمكن لأحد أن يلتمس غير طاعة الله والعبودية له، وكل ما في السماوات والأرض يخضع له ولإرادته وسننه في المخلوقات ويفتقر إلى نعمه ولا يقدر على الخروج من ملكه سواء بإرادته أو رغمًا عنه؟
فلا يجد المستكبر عن عبادة الله لنفسه مخرجًا من هذا كله إلا بتمني العدم، وتمني أنه لو كان له الخيار قبل الخلق لما اختار الحياة، فيقول: ليتني لم أُخلقُ، ولم أكُ شيئًا! فلبئس ما قاده إليه عقله الضعيف وتفكيره القاصر، وكان الإنسان ظلومًا جهولاً!