البحث عن معنى الحياة!

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

✍🏻 في صبيحة يوم ما،،
دخل المريض تومبسون على عالم الأعصاب البريطاني المعروف أوليفر ساكس (ت ٢٠١٥م) ودار بينهما الحوار التالي :

♦️المريض: ماذا تريد أن تطلب من اللحم؟
🔹 رد الطبيب : أنت مخطئ.
♦️المريض:  المعذرة النور ضعيف، تذكرت، أنت صديقي توم.
🔹 الطبيب :  أنت مخطئ أيضًا.
♦️ المريض:  لماذا ترتدي معطفًا أبيض؟ أوه، إذن أنت فلان الجزار، هل كان العمل في المسلخ جيدا؟
🔹 الطبيب : أشار إلى السماعة في صمت.
♦️اندفع  تومبسون”المريض” بالقول: «لماذا تتظاهر بأنك الجزار فلان؟ وأنت ميكانيكي؟ أنت صديقي مانرز
ثم انتبه، وقال: «أين أنا؟».

📝 استمرت المحادثة لبعض الوقت وعرف الدكتور ساكس أن المريض مصاب بما يعرف بـ متلازمة كورساكوف Korsakoft syndrome ، وهو خلل عصبي يصيب الدماغ ويؤثر بشدة على الذاكرة واللغة، والمريض هنا يحاول جاهدًا فهم ما أمامه، بتخمين واختراع قصص وحكايات تفسّر له ما يحيط به في اللحظة يجري الحالية.

✍🏻 يشرح الدكتور ساكس حالة تومبسون المصاب بهذا الخلل قائلا:
«لم يعرف تومبسون من هو، ولا أين كان، ولم يكن يتذكر أي شيء لأكثر من بضع ثوان. وكانت هُوَّات عميقة من النسيان تنفتح باستمرار أسفل منه، لكنه كان يجسّرها بخفة وسرعة وبتخيلات تمكنه من أن يرى أو يفسر هذا العالم [الذي ظهر أمامه] فجأة”!

✍🏻 مع الأسف كان المريض تومبسون يبتدع على الدوام عالَمًا خاصًا لتعويضه عما فقده ونساه باستمرار، وذلك لأنه يعاني من خلل خطير في هويته الذاتية، بعد أن محيت قصته الشخصية من وعيه وإدراكه …  ولم يعد يتمثل ذاته داخل أي بنية زمانية تمتد من الماضي إلى المستقبل؛ ليصبح الحاضر اللحظي العابر هويته الوحيدة، لكن هذه الهوية اللحظية تتهاوي هي الأخرى باستمرار، ومن ثمَّ يفشل أي مشروع شخصي لبناء الهوية!

✔️📝 ويستطرد د. ساکس قائلا:

” يملك كل واحد منا قصة حياة، أو حكاية داخلية يشكل كل من استمراريتها ومعناها، حياته الفعلية، وعليه فإن كلا منا يؤلف قصته ويعيشها، وهذه القصة هي نحن، هي هويتنا.. وإذا أردت أن تعرف فلاناً، فاسأل عن قصته!»

✍🏻 ومما لاشك فيه أن كل واحد منا له حكايته الفريدة العميقة، التي يتم تركيبها باستمرار ودون وعي منه، عن طريق نفسه ومن خلاله، من خلال إدراكاته ومشاعره وأفكاره وأفعاله..
صحيح أننا نتشابه بيولوجيا وفسيولوجيا ، أما تاريخياً، أي باعتبارنا قصصا، فكل منا فريد..
ومن أجل أن نكون أنفسنا، ولكي نمتلك أنفسنا مجددًا إذا لزم الأمر؛ فعلينا أن نتذكر أنفسنا، ونتذكر الدراما الداخلية فيها وفي قصتها، بمعنى.. أن كل إنسان يحتاج إلى قصة كهذه.. إلى قصة داخلية مستمرة ودائمة للحفاظ على هويته ونفسه من أن تضحى طي النسيان!

✍🏻 قد يبدو لك الأمر هزليا، أو طريفًا، أو حتى مشوقا من الناحية الأدبية.. إلا أن الحقيقة أن بعض الروائيين وكتاب السينما قد استعمل بالفعل هذه المتلازمة.. فتومبسون في مثالنا رجل يائس، والعالم عنده فاقد للمعنى، بل إنه يختفي ويتلاشى، ولذا فهو يشعر بالاضطراب والتوتر الدائمين؛ كما لو كان رجلًا تحت ضغط داخلي مستمر، يملؤه الإحساس بالارتباك، ومع هذا فليس لديه شعور بأنه فقد الشعور، وليس لديه شعور بأنه فَقَدَ الأعماق، ذلك العمق الغامض المتعدد المستويات والمتعذر فهمه والذي يعرف بطريقة ما – الهوية أو الحقيقة..

🔹إن هذه الحالة من فقد الهوية تقربنا خطوة أكثر نحو فهم الإطار العام لأزمة المعنى. وليس من المبالغة القول إن ما أصاب الفرد المعاصر يمكن أن يعد جزئيا – ألوانًا مخفّفة من ذاك العطب العصبي، في عالم الحداثة..
وحتى إن لم يعان الفرد من أعطاب جذرية تمس جوهر إدراكاته الذاتية، إلا أنه يقاسي أعطابا روحية تورثه ارتباكا حادا في الموقف من الذات والهوية والشخصية، ليتيه بسببها في صحراء مقفرة من المعنى، وفاقدا مرساة الأخلاق والتوجيه القيمي🔹

ولذا، فإن على الفرد المسلم الذي يعاني من أحد الأعطاب الروحية أو القيمية تلك أن يعالجها باستمرار، وأن يرمم ذلك التلف الذي يعتري قلبه، ولن يكون ذلك إلا بمحاسبة نفسه ومسائلتها عن مدى موافقتها للشرع، والسنة، والهوية الإسلامية، التي لابد ألا ينفك عنها كل من أراد سلامة نفسه وروحه من أن تنجرف مع سيل الفتن الجارف الذي يعصف بروحه ليل نهار، ويريد أن تفتك به بعيدًا إلى الهاوية.  وإن القرآن والسنة في هذا الزمان لكفيلان بحفظ روحك من الانهيار، وبقاء نفسك من الاندثار..

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد