أسئلة عن الملحدين

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

هل يرتبط الاكتئاب ارتباطًا وثيقًا بالإلحاد؟ وهل يؤدي ذلك إلى الانتحار؟ أم أن الملاحدة يعيشون في سعادة كما يصورون؟!
هل أدى حصول الملحد على قدر من اللذة إلى الشعور بالاستقرار أم أن فكرة الانتحار للتخلص من الخواء الروحي هي الأمر المسيطر على كيانه؟!
ماذا يحدث للإنسان عندما يفقد من حياته المعنى والغاية ؟! هل هذا يساعده على تحسين حياته، أم يؤدي به للقلق والتوتر والخوف من المصير؟! وكيف يفسر الملحد ما يعانيه من شقاء روحي ؟!
هل يتمتع الملاحدة فيما بينهم بالروابط الاجتماعية؟ وكيف يتأثرون ببرود المشاعر وتقطع العلاقات بينهم؟
 لماذا نجد الملحدين أكثر الناس اختلافًا فلا يتفق اثنان من رؤسائهم على قول واحد كما شبههم كبيرهم “ ريتشارد دوكنز ” بقطيع من القطط المزعجة!!
 نتعرف على إجابات تلك الأسئلة من خلال هذا المقال الذي ترجمناه لأحد الملاحدة ( ستاكس روش ) عن انتشار الانتحار والخواء الروحي والنفسي بين الملحدين وكيف أنهم يخشون الاعتراف بذلك، مع إضافة تعليقات هامة ل د. هشام عزمي.

الانتحار بين الملحدين

ستاكس روش

الاكتئاب يعد مشكلة خطيرة في مجتمع الملحدين لدرجة أنه أدى إلى الانتحار. هذا شيء كثير من زملائي الملحدين لا يحبون غالبا أن يعترفوا به ، لكنه الحقيقة. أنا أعرف كثيرا من الملحدين _وأنا منهم_  يفضلون الإيمان بأن الملحدين أكثر سعادةً من المؤمنين بالأديان ، ونحن بالفعل كذلك في كثيرٍ من الجوانب[1].

يوجد بالطبع الكثير من الأسباب المنطقية التي تفسر لماذا الملحدين أكثر ميولا للإنتحار عن المؤمنين بالأديان. يكفي إثارةً للإنتباه أن واحدا من تلك الأسباب هو المؤمنون أنفسهم. نحن نعيش في عالم سيطر عليه أناسٌ يؤمنون بشدة بالخرافات القديمة وكثيرا ما يشيطنون ويضايقون وينبذون ويتبرؤون ممن لا يؤمن بتلك الخرافات القديمة. وبالتالي يصبح الملحدون على إثر تلك المعاملة مضغوطين ومنعزلين مما يؤدي غالبا إلى إصابتهم بالقلق والاكتئاب في نهاية المطاف[2].

تخيل أنك شاب أدرك حديثا أن الإله خيالي. أنت أدركت لتوّك أن كل شيء علمه لك عاداتك الدينية ووالداك هو إيمان ملقّن. عالمك بأكمله أصبح فجأةً بغير صانع ولأول مرة في حياتك أنت مضطر إلى أن تتصارع مع الأسئلة الوجودية العظمى عن الحياة بمفردك وبدون أي شبكات دعم. ماذا يعني أن تعيش حياة ذات معنى بدون وجود إله خارق للطبيعة؟ بدون وجود حياة أخرى لتعيش من أجلها ؟

ما هو الهدف من الحياة؟[3]

هذا الشاب ليس عليه فقط أن يتصارع مع الأسئلة الوجودية ولكن عليه أيضا أن يفعل ذلك في ظل الخوف والقلق من الإفصاح عن شكوكه وإلحاده للعائلة والأصدقاء. ربما هو بالفعل قد فعل ذلك مما أدى إلى نبذه والتبرؤ منه وتركه بلا أصدقاء أو أسرة أو مجتمع كنسي في الظلام الوجودي والفلسفي وربما مواجهة التنمر والمضايقة من مجتمعه المؤمن بالأديان[4].

لقد كتبتُ عن مشكلة الانتحار المتعلق بالالحاد من قبل وحصلت على مجموعة من الردود. بعض الملحدين سألوا إذا ما كانت الإحصائيات أظهرت أنه يوجد مشكلة في الأصل. وللعلم، يوجد فعلا مشكلة وأستطيع أيضا أن أخبرك بذلك استنادا إلى شواهد وحقائق مثبتة. كما قلتُ في ذلك المقال السابق كان لدي أصدقاء ماتوا بالفعل أو على الأرجح منتحرين. منذ ذلك المنشور أنا أعلم ملحدين أكثر أنهوا حياتهم. ولكن حتى لو كانت أعداد المنتحرين بين الملحدين مثل أعداد المنتحرين بين المؤمنين بالأديان فهذا لا يعني أننا لا ينبغي أن نقلل تلك الأعداد، فهذه الحياة هي الحياة الوحيدة في النهاية.

كان يوجد مسيحيون تفاعلوا مع مقالي السابق بسرية وعلى الملأ أيضا.كانوا غالبا سريعون في توجيه أصابع الاتهام وقول أشياء مثل : “انظر، الإلحاد يؤدي إلى الانتحار” أو “ربما الملحدين لديهم معدل انتحار أعلى لأنهم يعلمون أن حياتهم لا تعني أي شيء بدون إله. ولكنهم متكبرون جدا لدرجة ألا يتوسلوا إليه ليغفر لهم مع أنهم بداخلهم يعلمون أنهم مذنبون، هم يفضلون أن يموتوا للأبد مع آثامهم. نعم، تلك كانت تعليقات حقيقية من مؤمنين حقيقيين. هذا ما سمِّي بالمحبة المسيحية.  حتى “بيل دونوهيو” البغيض من الرابطة الكاثوليكية انضم إلى الحدث. في كتابه “الميزة الكاثوليكية، لماذا الصحة والسعادة والسماء ينتظرون المؤمنين ؟”، لقد ذكرني بالاسم حيث إنه حرف واخترع كلاما عن مقالي السابق لأنه كان يحاول أن يستعمله كمصدر مراجعة. ردودهم بالطبع أساءت الفهم بالكامل. دعني أوضح لك الأمر، نعم الملحدون مثل كثير من الأقليات المهمَّشة أكثر عرضة للاكتئاب وحتى الانتحار بسبب المعاملة الفظيعة التي يتعرضون لها من كثير من الأكثرية المؤمنة[5].

أنا أعترف بذلك بينما التجاهل نعمة والناس يمكن أن يكونوا أكثر سعادة عندما يؤمنون بوجود جنة سحرية بعد الموت، ولن يحدث ذلك إلا إذا تقبلوا حقيقة أنهم في مكان أفضل ليجعلوا أنفسهم والآخرين سعداء بحق. هذا هو الفرق بين أن تكون تحت تأثير المخدرات وبين أن تكون مستمتع بالحياة ، أو في تلك الحالة بين أن تكون مولع بالمسيح وبين أن تكون مولع بعجائب الكون الهائلة. في الحقيقة، أنا أعتقد أن الاستمتاع بالحياة هو أفضل أنواع السعادة، وهذا رأيي فقط[6].

كوصفنا مجتمع، فالملحدون يجب أن يذكّروا بعضهم البعض باستمرار بالعجائب[7] التي حولنا. فمن السهل جدا الضياع في صراعاتنا اليومية. وكما قال “فيريس بيولر” : الحياة تمضي بسرعة كبيرة أحيانا، وإذا لم تتوقف وتنظر حولك من فترة لأخرى فمن المحتمل أن تفوتك. نحن لدينا حياة واحدة، ولا يوجد فرصة ثانية أو ممكلة سحرية بارعة تنتظرنا بعدما نموت. هذا كل شيء، فالحياة قصيرة جدا لتضيعها، وإذا كانت حياتك سيئة فاعمل لتجعلها أفضل، إن لم يكن من أجلك فمن أجل من يأتون بعدك. مرة أخرى، هناك كون فسيح فالخارج ونحن عبارة عن حلقات في سلسلة النجاح الإنساني.

شيء واحد قد لاحظته وهو عندما ينتحر شخص ما تظهر فجأة موجة كبيرة من الدعم والتعاطف معه، لو فقط جاء ذلك الدعم مبكرا قليلا … حسنا، هذا يمكن أن يحدث(ليس لهم في الحقيقة ولكن لمن بعدهم. هذا صحيح، نحن نستطيع أن نكون موجودين من أجل أصدقائنا وعائلاتنا في الحال. لا ينبغي أن ننتظر أحدهم حتى ينتحر كي نقول أشياء جميلة عنهم. لا ينبغي أن ننتظر لكي نحقق مع الناس الذين نعرف أنهم في صراع. نحن نستطيع أن نكون موجودين من أجل الناس في الحال[8]. الأديان لديها مزية حقيقية في تلك النقطة[9]، ولكن الملحدين يمكن أن يحصلوا على ذلك أيضا. لا حاجة لنا في الإيمان بخرافات سخيفة مبنية على أدلة غير كافية[10] لكي نحصل على مجتمع لديه الرغبة في مساعدة بعضه البعض. نحن نستطيع فعل ذلك.

الملحدون مشهورون بأنهم متناقضون وأنهم قوم دائما متفرقين وغير مجتمعين[11]. إنك إن تجمع ثلاثة ملحدين في غرفة فلن يكر وقت طويل حتى يظهر شيء صغير يفرقهم. “ساوث بارك” سخر من ذلك وفي السنوات القليلة الماضية رأينا ذلك في أحداثنا واجتماعاتنا المحلية والقومية. لكن الواقع هو أنه إذا كان الدين قد فعل شيئا صحيحا فقد حدث ذلك لإنشاء مجتمعات حقيقية للناس كي يجتمعوا ويتشاركوا صراعاتهم[12]. لا يجب أن نتوافق في كل موضوع. سيكون هناك قضايا صغيرة وكبيرة على حد سواء لدى الملحدين وبعضهم البعض. على كل حال، نحن جميعا نعيش معا على تلك النقطة الزرقاء الصغيرة وينبغي أن نكون متواجدين من أجل بعضنا البعض لأنه لا يوجد إله سحري ليساعدنا ولا يوجد أحد مثالي.

ولكن ذلك يجب أن يحدث من ناحيتين، فنحن ليس فقط علينا مسؤولية مساعدة بعضنا البعض ولكن أيضا علينا مسؤولية في مشاركة صعوباتنا مع بعضنا البعض وفي طلب الدعم و المساعدة. لا يوجد إله سحري ينظر إلى أرواحنا. ياللجحيم، لا يوجد في الأصل أراواح كي يُنظَر لها. هل قلت لتوي “ياللجحيم”؟ هذا حتى ليس مكان حقيقي. ولكني استطردت في الحديث[13]. على كل حال، مقصدي هو أننا يجب أن نقدم المساعدة للآخرين وأن نطلب المساعدة عندما نحتاج إليها. هذا علينا نحن ولا يوجد عار في الاعتراف بأننا نحتاج إلى المساعدة[14].


[1] يقصد أن الملحدين أكثر انغماسًا في الملذات والشهوات من المؤمنين، وهو يعتبر هذا من أبواب السعادة، رغم أن العكس صحيح، فمحاولة تحصيل سعادة القلب بعيدًا عن الإيمان الحقيقي لا تصلح إلا كمسكن أو مخدر للنفوس القلقة والأرواح المعذبة، والقوم يعمدون إلى ما يلهي عقولهم في الأغاني تارة وفي الخمر والمخدرات تارة أخرى وفي ألعاب الفيديو تارة ثالثة وفي القصص والروايات الخيالية تارة رابعة وفي الأفلام والمسلسلات تارة خامسة وفي شهوات البطن والفرج تارة سادسة وهكذا. وهذه كلها لا تحقق لهم إلا لذات طارئة سريعة خاطفة، لا تلبث أن تزول وتترك الإنسان بعدها أشد كآبة وسوداوية وخواء وأكثر شوقًا ولهفة للذة أخرى وجرعة أكبر من المخدر والمسكن. لكن لو وقف الإنسان مع نفسه وقفة صادقة وتأمل في حاله بصدق وإخلاص لعلم أنه إنما يضيع عمره وعقله وبدنه وماله فيما يضره ولا ينفعه.

[2] إلقاء اللوم في مشكلة انتحار الملحدين على غير الملحدين هي إزاحة للمشكلة وهروب من أسبابها الحقيقية عن طريق إيجاد شماعة يعلق عليها الفشل والإخفاق أو كبش فداء يحفظ به ماء الوجه، أو هو رد فعل نفسي للملحد يقول فيه لغير الملحد: أنا لست سبب المشكلة، بل أنت السبب! وهو كذلك يفيده في خلق مظلومية للملحدين يسعون عن طريقها إلى تحصيل بعض المكاسب على الساحة الاجتماعية والسياسية.

[3] أصاب روش في ذكره لهذا السبب الذي يؤدي بالملحدين إلى الاكتئاب، والانتحار في نهاية المطاف، وهو فقدان المعنى من الحياة وانعدام الغاية لأنه يصيب الإنسان بالقلق الروحي الشديد، وهو قلق مبرر، فالإلحاد يترك الإنسان بلا وجهة ولا بوصلة ولا هدى ولا نور، فبعد أن كان مطمئنًا يعرف لحياته غاية وهدفًا ومعنى، صارت هذه الحياة عبثًا وعشوائية وفوضى يأكل فيها القوي الضعيف ويفترس فيها أصحاب النفوذ والسلطة والجاه والمال من دونهم من الخلق. ثم هذا الملحد عليه أن يقاسي مرارة الحياة وصعوباتها وابتلاءاتها المتوالية بلا هدف سوى أن يكون ألعوبة لصدفة أزلية حمقاء عمياء، لا منتهى له فيها يزيد على أن يكون جيفة منتنة بقفر من الأرض تتحلل حتى لا يكاد يبقى منها شيء ثم لا حساب ولا عقاب ولا أمل ولا رجاء بعد كل تلك الحياة المليئة بالأسقام وقساوة العيش، فما معنى هذه الحياة حتى يصبر عليها ويصابر على شدائدها وصعابها؟ وما الذي يدفع ملحدا لأن ينشب بأظفاره فيها تمسكا بعيش ساعة لا يصفو كدرها ولا يحلو مرها؟ فيالها من حياة موحشة مقفرة، بل ومرعبة!

[4] أصاب روش في إشارته لمشاكل الأسئلة الوجودية في الإلحاد، لكن لم يصب عندما ألقى اللوم فيها على المجتمع غير الملحد، فعلى مر التاريخ عرفنا صنوفا من العذاب والاضطهاد للمؤمنين، ولم نجد لديهم مشاكل الاكتئاب والانتحار على هذا النطاق الواسع وبهذه الكثافة والانتشار كما في الإلحاد، فبنو إسرائيل لقوا ألوانًا من التعذيب والاضطهاد على أيدي فرعون وقومه في مصر من قتل الأبناء والذرية واستحياء النساء وغيرها من صنوف البلاء والعذاب، وقبلهم سحرة فرعون المؤمنون الذين عوقبوا بالموت البطيء صلبًا على جذوع النخل، وبعدهم النصارى الأوائل أتباع المسيح الذين سامهم الرومان سوء العذاب قتلاً وحرقًا ومطاردة في كل مكان، حتى أنهم كانوا يلقون بهم فرائس للأسود الجائعة، ثم المسلمون الأوائل في مكة وما لاقوه من اضطهاد الكفار في مكة من الحصار والتجويع والضرب والجلد والتعذيب المنهجي ووضع الحجارة الثقيلة على الصدر والقتل وغيرها من ألوان العذاب. ولم نعرف عن هؤلاء المؤمنين أنهم كانوا يعانون من الاكتئاب والانتحار على هذا النطاق الواسع الذي نعرفه في الملحدين، ولا ريب أنه ليس في الملحدين من لقى من المخالفين عشر معشار ما لقيه المؤمنون على مر العصور من أعدائهم ومخالفيهم، فإن كان من لقوا العذاب الأليم من المؤمنين لم تصدر عنهم هذه الأمور لأجل تعذيبهم واضطهادهم، فكيف يصح أن يكون ما هو دونه بمراحل من التنمر والنبذ والمضايقة هو السبب الجوهري في الاكتئاب والانتحار؟

[5] يتضح هنا أن التعلل بمعاملة غير الملحدين للملحدين ليس إلا رد فعل نفسي لكتاباتهم التي تبرز هذه المشكلة عند الملحدين، فكأنه يقول: مشكلتي سببها أنتم أيها المؤمنين! فهذا إنكار نفسي محض، سياقه واضح، وليس تعليلاً منطقيًا سليمًا يعول عليه. وغالبًا يسوق الملحدون هذه الدعاوى لتحصيل امتيازات سياسية أو اجتماعية أو قانونية معينة.

[6] هذه نقطة جيدة من روش توضح الفرق الكبير بين المؤمن بالله (بالمفهوم العام للإيمان بالخالق) والملحد، فالملحد يرى أنه ليس هاهنا إلا هذه الحياة الدنيا نحياها وما يهلكنا إلا الدهر، وليس بعد هذا حساب ولا ثواب ولا عقاب ولا أمل ولا عدالة، وأن الحياة الآخرة مجرد وهم يعيشه المتدينون، وبناءً على هذا التصور فالمؤمنون (بالمعنى الواسع للإيمان بالخالق) مثل متعاطي المخدرات يعيشون في الوهم. بينما على الجانب الآخر فالحقيقة أن المؤمنين بالخالق يرون أن هذه الحياة الدنيا لعب ولهو ودار مؤقتة ومجرد مزرعة للآخرة، وأن الدار الآخرة بعد الموت هي دار القرار ودار الحياة الحقيقية التي فيها تحقيق العدل المطلق بين الخلق، لهذا لا يصيبهم الهم والحزن على ما يفوتهم في الحياة الدنيا، بخلاف الملحد الذي يصيبه الجزع والهلع إذا فوت لذة أو أضاع شهوة. لهذا يحرص الملحد أشد الحرص على عدم تفويت أي لذة في أي مناسبة، فيقضي حياته لاهثًا خلف النزوات والشهوات والملذات يخشى أن يفوته شيء منها، لأنه يدرك في قرارة نفسه أنه ليس له نصيب إلا في ما يحصله من شهوات خاطفة في حياته القصيرة.

[7] هذه هي المرة الثانية التي يشير فيها روش إلى عجائب العالم الذي نعيش فيه، فالكون فعلا زاخر بالعجائب التي تثير العقل وتحفز الذهن. يقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. وفي الأثر: (تفكر ساعة خيرٌ من قيام ليلة).

نعم! إن في خلق السماوات والأرض لآياتٍ لمن يتفكر، والتفكر في الخلق ساعةً خيرٌ من قيام ليلة كاملة، والسعيد من تفكر وتدبر وأمعن نظره وأعمل فكره فيما في الخلق من الإبداع والإحكام والإتقان والدقة والجمال، سواء في خلق العالم أو في خلقه هو نفسه. وكلما أمعن الإنسان النظر ظهرت له أسرار جديدة من أسرار هذا الملكوت العظيم والنظام المعجز، مما يدل على أنه لا ساحل لأسراره ولا نهاية ولا قرار. فها نحن نرى الأيام تفنى والعلماء يتتابعون والمفكرون والفلاسفة يجتهدون دون أن يحيطوا علمًا بسر واحد من أسرار هذا الخلق، ودونك الكتب والمؤلفات والرسائل والأبحاث ترى فيها كم من المناظرات في مسألة واحدة حمى فيها وطيس الجدال، ورخصت أمام تحصيلها وتحقيقها النفوس والأوقات والأموال، واجتهدوا فيها أجيالاً بعد أجيال، دون أن يهتدوا إلى سرها أو يقفوا على حقيقة أمرها أو يحيطوا علمًا بكنهها، مثل مسألة الحياة أو الموت أو الوعي أو الأخلاق.

فالواجب على من يتفكر هذا العالم المعجز العجيب ويتأمل عجائبه وغرائبه ومعجزاته أن يهديه عقله إلى خالقه العليم الحكيم الخبير الذي خلق فسوى وأتقن كل شيء صنعه وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، لكن من أعجب العجب أن يكون كل هذا التأمل والتفكر والتمعن في هذا الكون المعجز وفي هذا الخلق المتقن، ثم لا يكون له ثمرة ولا نتيجة إلا إلهاء النفوس وتمضية الوقت! فمثل هذا كمن أصدر له مديره في العمل قرارًا بمكافأة أو علاوة، فذهب يمدح القلم الذي كتب به القرار والحبر الذي في الورقة، ويبدي إعجابه وانبهاره بالقلم والحبر والورقة، ولم يلتفت للمدير الذي أصدر القرار، وكأن القلم والحبر والورقة هم أصحاب الفضل عليه!

[8] لأجل ذلك الخواء الروحي والفراغ النفسي والضياع الذي يعيشه الملحد، هو يعيش في ضنك وعذاب وقلق، لهذا يحتاج دومًا وباستمرار إلى الدعم من الخارج والمساندة من الآخرين، بخلاف المؤمن الذي يجد في إيمانه القوة المعنوية والطاقة الإيجابية، ويستشعر معية الله تبارك وتعالى، فيكون هذا ملاذًا له وملجأً يحميه ويحفظه من اليأس والإحباط والقنوط، فهو يدرك أن كل شر وكل ابتلاء له حكمة وغاية وفيه مصلحة وفائدة، لهذا يستبشر بقدوم الخير، وبأن مع العسر يسرًا، وبأنه بعد الشدة يكون الفرج، وأن الله سيؤتيه في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وأن الابتلاء رافعٌ للدرجات ومزيلٌ للخطايا، وليس أيٌ من هذا إلا للمؤمن. فهذا كله يعطي للمؤمن من القوة المعنوية والصلابة الروحية ما يجعله قادرًا على مواجهة ابتلاءات وشرور الدنيا بعزيمة وإيجابية وثبات.

[9] الرابطة الدينية والأخوة الإيمانية هي من ميزات الدين حقًا، وهي تدل على أنه جاء موافقًا لفطرة الإنسان وحاجاته الشخصية والاجتماعية، وأن الرسل والأنبياء علموا البشرية علومًا ومسائل في النفس والاجتماع والمدنية والحضارة يأتي مخالفوهم بعد قرون ليعترفوا لهم بالسبق والتفوق فيها، وأن هؤلاء الأنبياء لم يكونوا جهلة بدائيين مثقلين بالخرافات والأساطير، بل كانوا مشاعل هدى ونور للبشرية ورحمة للعالمين، وأن من يعرض عن تعاليمهم فإن له معيشة ضنكًا في الدنيا، ثم يكون عذاب الآخرة أشد وأبقى.

[10] ربما يكون في دين النصرانية وغيره من الخرافات والأساطير والاعتقادات ما ليس عليه دليل من عقل صحيح ولا نقل سليم، لكن الأدلة على وجود الله واتصافه بصفات الكمال في العلم والقدرة والحكمة أكثر من أن تحصى، ومن الجحود فعلاً أن توصف بأنها غير كافية، انظر على سبيل المثال كتاب (الإلحاد للمبتدئين) فصل الأدلة على وجود الله.

[11] هذه ملحوظة في محلها اعترف بها الكثير من رموز الإلحاد في الغرب حتى أن ريتشارد دوكينز الملحد البريطاني الشهير يشبههم في كتابه (وهم الإله) بقطيع من القطط المزعجة! وقد كان يجب مع ما يدعيه القوم في مذهبهم من صدق البحث وسلامة المنهج وصحة الأصول أن لا يختلفوا كما لا يختلف الأطباء في قياس الضغط وعد ضربات القلب، وكما لا يختلف أهل الفيزياء والكيمياء والفلك وعلوم البحار وطبقات الأرض في حساباتهم وقياساتهم، فما بالهم أكثر الناس اختلافًا لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على قول واحد في الأمر الواحد! ولو أردنا أن ننتقل عن الإيمان ونرغب عنه إلى الإلحاد، لخرجنا من اجتماع إلى تفرق، ومن نظام إلى تشتت، ومن اتفاق إلى اختلاف، ومن أنسٍ إلى وحشة. فنحن إذا أتينا الملحدين لما يزعمونه من تجرد وموضوعية وصرامة في البحث، وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم، ونعتقد شيئًا من آرائهم، وجدناهم يختلفون ويتعارضون، ويتقدمون بالرأي وعنه ينافحون، ثم بعدها يرجعون عنه ويتبرؤون، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

[12] هذه من دلائل صدق الأنبياء وصلاحية تعاليمهم وتفوقها أمام مخالفيهم من منكري النبوات كما سبق أن قررنا.

[13] روش يكتب الكلمة ثم يتراجع عنها ويتبرأ منها! لا أدري هل هو من العي والركاكة؟ أم أنه يسخر من نفسه؟!

[14] عندما تكون النفس خاوية من المعنى والغاية ومن النور الداخلي، لا يمكن للمرء أن يستمر في الحياة إلا بحبل من الناس، لابد من الدعم الخارجي المتواصل والمستمر، فهو كالعاجز المعاق المفتقر إلى المساندة والمساعدة، فهو عبء على نفسه وعلى أسرته وعلى عمله وعلى مجتمعه، ولا يمكن أن تقوم الحضارة والمدينة على شخصيات خاوية هشة فقيرة معنويًا مثقلة بالطاقة السلبية بهذا الشكل، فضلاً عن كون هذه الشخصيات تبث هذه الطاقة السلبية فكريًا ومعنويًا في المجتمع من حولها أينما ذهبت، فيكونون دعاة للخراب والوبال على المجتمع وأهله.

اضغط هنا للحصول على المقال بصيغة PDF

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد