البرهان الأنطولوجي على وجود الله

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

وهو من أشهر الأدلة المستمدة من الفطرة، ومن أبرز صياغاته صياغة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وهو يعتمد على حقيقة أن إدراك الفطرة للنقص يعني وجود الكمال مثل أن إدراك العطش يعني وجود الماء، وبما أننا ندرك من واقع النقص المحيط بنا والواقع فينا أن هناك كمالاً لا يلحقه نقص، ومن أهم صفات الكمال أن يكون واجب الوجود لا يجوز عدمه، فبالتالي هو موجود وجودًا واجبًا ضروريًا لا يلحقه نقص ولا عدم.

لهذا فمن بعض صياغات هذا البرهان هو أنه إذا كان الله هو واجب الوجود، وواجب الوجود موجود ضرورة، فإن الله موجود قطعًا، أو كما قال أحدهم: بما أن الله هو الله ، فالله موجود.

وهذا البرهان من النوع القبلي priori أي أنه ينطلق لإثبات وجود الله من حقيقة هذا الوجود نفسه، وهو يختلف عن البرهان الخلفي posteriori الذي يبدأ من النتيجة رجوعًا إلى السبب أو من الأثر إلى المؤثر. فعملية الاستنتاج في هذا البرهان تمضي من جوهر الوجود الإلهي الضروري إلى إثبات وجوده بخلاف غيره من الأدلة المبنية على السببية التي ترصد النتيجة لتستنتج بها وجود السبب أو الفاعل.

فمجرد إدراك الكامل واجب الوجود يقضي بوجوده لأن واجب الوجود موجود ضرورة بخلاف أي شيء آخر من الممكنات. لهذا سمي هذا البرهان بالأنطولوجي -أي: الوجودي- لأنه يستدل على وجود الله بنوعية وجوده سبحانه وتعالى. وهو في صياغة القديس أنسلم والفيلسوف ديكارت يبدأ بتقرير وجود الكمال اللانهائي والذي من خواصه وجوب الوجود.

لكن هناك صياغات أخرى لهذا البرهان فيما يعرف عن الفلاسفة المنتسبين للإسلام باسم دليل الوجود أو الدليل الوجودي، وقد اشتهر عن الفارابي وابن سينا ومن تبعهما، ويتلخص في الاعتماد على الوجود ذاته في إثبات وجود الله، قالوا: (إذا وجدنا من هذا الوجود العام وجودًا واجبًا، فقد وصلنا إلى المطلوب؛ لأن هذا الوجود الواجب إنما هو الله تعالى، وإلا التفتنا إلى الوجودات الممكنة، وبما أن كل ممكن فله علة هي سبب وجوده، فإنا نرتقي في سلسلة المعلولات والعلل، لكن لابد أن تنتهي هذه السلسلة إلى علة هي واجب الوجود ذاته، وذلك بعد بطلان الدور والتسلسل)[1]. ويقول أبو البركات البغدادي مادحًا هذه الطريقة: (فهذه أيضًا طريق استخرجها المهتدون بعلم أرسطوطاليس وبمذاهبه وأنظاره، وفيها زيادة بيان ووضوح محجة وحصول معنى وسهولة مأخذ)[2].

لكن يعيب هذا الدليل بهذه الصياغة أنه لا يثبت إلا وقوع واجب الوجود وهو ما لا ينازع فيه الملاحدة أصلاً؛ لأنهم يقولون إن هذا العالم واجب الوجود بنفسه ولم يخلقه أحد، فإثبات واجب الوجود في حد ذاته ليس مطلوبًا من المطالب الإلهية، وإنما المطلوب هو إثبات صحة مقصودنا بأن هذا الموجود الواجب هو الله سبحانه وتعالى.

وهنا يتفوق البرهان الأنطولوجي الديكارتي نظرًا لانطلاقه من نسبة الكمال إلى واجب الوجود وارتكازه على الفطرة في ذلك، وبالتالي بتقريره لإثبات وجود الله أقوى وأمتن من هذه الجهة لأنه لا يثبت وجود ما هو واجب الوجود فقط، بل يثبت وجود الكائن المتصف بكل الكمالات بما فيها وجوب الوجود، وهو الله عز وجل.

لكن هناك انتقادات شهيرة وجهت لهذا البرهان أبرزها ما وجهه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت ووافقه عليه شيخ الإسلام للدولة العثمانية مصطفى صبري[3] من أن تصور العقل لوجود الشيء لا يقتضي وجوده في الواقع؛ لأن هناك فارقًا بين وجود الشيء في الذهن ووجوده في الواقع الخارجي، أو كما قال كانت: هناك فارقٌ بين تخيلي لعشرة دولارات ووجود عشرة دولارات فعليًا في جيبي. وهذا الانتقاد صحيحٌ في ذاته لكنه لا يتعلق بموطن حجية البرهان الأنطولوجي؛ لأنه ليس متعلقًا بالتصور العقلي المحض للكمال المطلق، بل يتعلق بالإدراك الفطري المركوز في النفس لهذا الكمال انطلاقًا من النقص الواقع في نفس الإنسان وفيما حوله من موجودات، فهو كإدراك العطشان لوجود الماء، فهو ليس تصورًا عقليًا محضًا يخضع للفضاء الواسع للجواز العقلي، بل هو إدراك داخلي باطني مستمد من الفطرة. ((لأن معرفة الله إنما تتعلق بمعين متصف بجميع صفات الكمال، والضرورة الفطرية لا تحتمل اتصاف غير الله بها، كما لا يمكن النقص من صفات الكمال الثابتة لله تعالى بالفطرة لأنها ضرورية، ولو كانت قائمة على تصور نظري لأمكن النقص منها))[4]. ففطرة الإنسان مرتبطة بإدراك وجود هذا الكمال المطلق وأنه حتمي ولازم وضروري، وأنه شعور فطري ضروري وليس تصورًا عقليًا مجردًا.

والحقيقة أن هناك دراسات علمية تثبت أن الإنسان يميل بفطرته للإيمان بوجود إله خارق يتميز بالكمال في العلم والقدرة[5]، وبرهان هذا يظهر في السعي غير الواعي لخلق أمثال هذا الإله في شخصيات خارقة كأبطال الأفلام الغربية مثل سوبرمان وباتمان وكابتن أمريكا ورجال إكس وما إلى ذلك.


[1] . ابن سينا ، الإشارات ج3 ص482-483 ، النجاة ص235 . الفارابي ، فصوص الحكم ص60 ، عيون المسائل ص50 . نصير الدين الطوسي ، تجريد الاعتقاد ص154-155 .

[2] أبو البركات البغدادي ، المعتبر في الحكمة ج3 ص133

[3] مصطفى صبري ، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين ج2 ص214-218

[4] د. عبد الله القرني، المعرفة في الإسلام، ص220

[5]  Humans ‘predisposed’ to believe in gods and the afterlife

http://phys.org/news/2011-05-humans-predisposed-gods-afterlife.html

http://www.sciencedaily.com/releases/2011/07/110714103828.htm

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد

‎مؤخرة الموقع