دلالة الضبط الدقيق على وجود الله

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

هذا الدليل يشير إلى الاستدلال بالضبط الدقيق في مقادير وقوانين الكون للاستدلال على علم الله وحكمته وقدرته. يقول البروفيسور ريتشارد موريس: (( يبدو أن وجود كون له القدرة على إيواء الحياة لهو في الحقيقة أمر قليل الاحتمال جدًا. وفيما يفترض فإنه ليس من سبب يمنع من أنه يمكن لقوانين الفيزياء وثوابت الطبيعة أن تكون مختلفة اختلافًا هينًا عما هي عليه. وكمثل، فإن الجاذبية يمكن أن تكون أقوى قليلاً مما هي عليه، أو أن القوى النووية القوية والضعيفة يمكن فيما يفترض أن تكون أضعف قليلاً. ومن الظاهر أنه ليس من سبب أساسي يمنع فيما ينبغي أن تكون شحنة الإلكترون أكبر قليلاً مما هي عليه، أو أن تكون كتلة البروتون أقل قليلاً. على أنه لو تم وقوع أي من هذه التغييرات، فيكاد يكون من المؤكد أنه سينتج عن ذلك كون لا حياة فيه. وفيما يبدو، فإنه ما لم يكن هناك مبدأ غامض يعمل هنا، فإن الحياة ستكون نتيجة سلسلة من مصادفات استثنائية.

ونفس وجود العناصر التي تتأسس عليها الحياة، مثل الكربون والأوكسجين، هو فيما يبدو يعتمد على ما لا يمكن وصفه إلا بأنه ضربة حظ غير متوقعة. فهذه العناصر لم يكن يمكن قط تخليقها بكميات يعتد بها لو لم تكن نوى ذرات الكربون والبريليوم تحوي بالضبط المستويات المناسبة من الطاقة -وهو أمر من الظاهر أنه يتم مصادفة. ونواة الكربون التي تتكون من ست بروتونات وست نيوترونات، يمكن تركيبها من ثلاث نوى للهليوم (التي لكل منها بروتونان ونيوترونان). على أن هذه العملية ما كانت لتحدث كثيرًا جدًا لو لم يكن يوجد شكل غير مستقر من البريليوم (له أربعة بروتونات وأربعة نيوترونات) وله بالضبط ما هو مناسب من الخواص.

وحسب ميكانيكا الكم، فإن الذرة أو نواة الذرة لا يمكن أن تحوز أي قدر اعتباطي من الطاقة. قالذرات والنوى كلاهما لهما مستويات طاقة عديدة مختلفة. وهي لا يمكنها أن تمتص الطاقة أو تبثها بأي قدر اعتباطي، وإنما لا بد وأن تخضع في ذلك لوثبات كميّة تذهب بها من أحد مستويات الطاقة المسموح به إلى الآخر. ومستويات الطاقة تلعب دورًا مهمًا في التفاعلات النووية. وعلى وجه التحديد، فإن اتحاد نواتي هليوم معًا ليكونا نواة بريليوم سيكون من الأمور النادرة جدًا ما لم يكن للبريليوم مستوى الطاقة المناسب بالضبط. والواقع أن وجود هذا المستوى يضفي على نواتي الهليوم ألفة Affinity فيما بينهما ما كانتا تحوزانها بغير ذلك.

ونواة الكربون يبدو أن لها أيضًا مستوى الطاقة المناسب بالضبط لما يحتاجه دعم تكوين الكربون من الهليوم والبريليوم. وإذا لم يوجد هذا المستوى، فسيظل تكوين الكربون أمرًا ممكنًا، ولكن ليس بكميات يعتد بها. ولو كانت كمية الكربون في الكون تقل كثيرًا عما هو موجود، لن يكون من الممكن أيضًا وجود قدر كبير من الأوكسجين. فالأوكسجين الذي يتكون من ثمانية بروتونات وثمانية نيوترونات يتم تركيبه بأن تتمدد نوى الكربون والهليوم معًا.

وعند هذه النقطة، قد يعترض أحد المتشككين بأن الحجج التي من هذا النوع لا تخبرنا بأي شيء عن احتمالات الحياة، ولكنها فحسب تبرهن على مدى تعصبنا الشوفيني للكائن البشري. وقد يتساءل هذا المتشكك “كيف، أو ينبغي” أن نفترض أن الكائنات الحية يجب أن تصنع من الكربون والأوكسجين؟ من المؤكد أنه يمكن تصور وجود أنواع أخرى من الحياة.

وهذه المحاجة تطرح رأيًا له وجاهته. فنحن لا يمكن أن نكون واثقين من أنه لو كان هناك وجود لحياة في مكان آخر من الكون فإنها يجب بالضرورة أن تكون مشابهة لنا. ورغم كل ما نعرف، فإنه يمكن أن توجد حياة من نوع ما على سطح النجوم الحمراء العملاقة. على أن تحليل تخليق الكربون والأوكسجين ليس إلا الخطوة الأولى في المحاجة التي تدعو للبرهنة على قلة احتمال الحياة. فبعد أن يتضح أن الحياة التي تتأسس على الكربون هي أمر قليل الاحتمال، سيكون من السهل مواصلة تطوير الحجج التي تبرهن فيما يبدو على قلة احتمال وجود حياة من أي نوع.

وفيما يحتمل، فإن من المعقول أن نفترض أن الحياة (من أي نوع) تعتمد على وجود النجوم. فبدون النجوم، لن يكون هناك ضوء ولا حرارة، وأغلب الاحتمال أنه لن يكون هناك سريان للطاقة من مكان لآخر على نحو له أهميته. وبالإضافة فإنه يكاد يكون من المؤكد أن الحياة تعتمد على وجود ذرات وعناصر غير الهيدروجين. ولن يكون من السهل تصور كائنات حية في كون لا يحوي شيئًا سوى غاز الهيدروجين، أو في كون ليس مما يحدث فيه كثيرًا أن تتحد البروتونات والنيوترونات والإليكترونات لتكون المادة. ومع كل، فإن معظم الأكوان التي يمكن تصورها لا يوجد فيها نجوم ولا ذرات. وكمثل، فإن الكتل التي للنيوترونات والبروتونات في كوننا هي قريبة جدًا إحداها من الأخرى، حيث النيوترون أثقل بحوالي 1ر0 في المائة. ولو أن هذا الاختلاف بالكتلة كان أصغر هونًا فحسب، لما أمكن أن تضمحل النيوترونات إلى بروتونات أثناء المراحل المبكرة من الانفجار الكبير. وكنتيجة لذلك كان سيوجد لدينا كون من نوع مختلف بالكلية، كون تكون فيه الأعداد النسبية للنيوترونات والبروتونات جد مختلفة. ولو كانت البروتونات هي الأثقل هونًا، لأمكن أن تضمحل البروتونات إلى نيوترونات وبوزيترونات. وكنتيجة لذلك كان سيوجد في الكون الآن عدد قليل من البروتونات أو أنها ما كانت لتوجد. وفيما يحتمل، فإنه لن يكون هناك أيضًا عدد كبير من الإلكترونات، ذلك أن الإلكترونات هي والبوزيترونات سيقوم كل منهما بإبادة الآخر بالتبادل عندما يلتقي أحدهما بالآخر. وفي كون كهذا، سوف يمتلئ الفضاء بالنيوترونات، أما ما عدا ذلك من جسيمات فستكون قليلة.

ولو حدثت أهون التغيرات في شدة أي من القوى الأربع، ستظهر النتائج في كوارث مماثلة تقريبًا. وكمثل، لو أن القوة النووية القوية كان أضعف بخمسة في المائة فحسب، فإن الديتريوم لن يكون له وجود، حيث أن القوة القوية لن تكون بالشدة الكافية لأن تبقى النيوترونات والبروتونات ممسوكة معًا. وتكوين الديتريوم هو خطوة واحدة في سلسلة التفاعلات التي تحول بها النجوم الهيدروجين إلى هيليوم. وإذا أصبح تكوين الديتريوم من غير الممكن فإن النجوم لن تتمكن من أن تسطع.

ولو كانت القوة النووية القوية أشد مما هي عليه بنسبة مئوية قليلة، فإن النتائج ستكون حتى أسوأ (على الأقل من وجهة نظرنا نحن). ففي هذه الحالة سيكون من الممكن تخليق جسيمات تدعى ثنائي البروتون، تتكون من بروتونين مربوطين معًا. وثنائي البروتون لا يوجد في كوننا لأن القوة القوية ليست بالشدة الكافية تمامًا لتغلب على التنافر الكهربائي بين البروتونين المشحونين بشحنة موجبة. ولو حدث ووجدت بالفعل ثنائيات البروتون، فإن النجوم لن تحرق الهيدروجين بمعدل بطيء ثابت كما تفعل في كوننا. وعلى العكس من ذلك، فإن تركيزات غاز الهيدروجين سوف تؤدي إلى انفجارات نووية كارثية، وسوف تُنفث النجوم ممزقة قبل أن تستطيع أن تتكون. وبالإضافة، فحيث أن الهيدروجين يمكن أن يدخل بسهولة بالغة في تفاعلات نووية، فإن الكون كان سيتكون كله تقريبًا من الهيليوم.

ولو كان هناك أهون اختلاف في شدة القوى النووية الضعيفة أو الكهرومغناطيسية أو الجذبوية فإن النتيجة ستكون أيضًا كونًا غير مواتٍ للحياة. وبعض الأكوان الممكنة كهذا لا يوجد فيها ذرات. والبعض الآخر سيمتلئ فضاؤه بالنيوترونات، أو بلا شيء سوى غاز الهيدروجين أو الهليوم. بل وستكون هناك أكوان أخرى لا تتشكل فيها نجوم، أو أن النجوم ستحترق سريعًا بحيث لا يكون هناك قط أية فرصة لأن تنشأ الحياة. بل ويمكن أن نتصور أكوانًا غير مواتية للحياة لأن لها خواص بعدية غير مناسبة. وكمثل، فلو كان للمكان بعدان فقط، فإن خلق الحياة يكون في أقل ما يقال مشكلة. فلن يكون من الممكن مثلاً أن يحوز الحيوان جهازًا هضميًا يجري من أحد أطرافه للآخر، فممر له هذا المسار سوف يشق الحيوان في جزئين. ولو كان للمكان أربعة أبعاد، لن يمكن أن توجد مدارات مستقرة للكواكب. ومن الممكن البرهنة رياضيًا على أنه لو تكونت بالفعل كواكب في فضاء كهذا فإنها سوف تندفع لولبيًا لداخل الشمس))[1].

فهذا الضبط الدقيق أو المعايرة الدقيقة للكون fine tuning of the universe يدل على أن هناك من ضبط هذه المقادير لأجل صلاحية ظهور الحياة وخلق الإنسان في نهاية الأمر، وهو ما يعرف بالمبدأ الإنساني anthropic principle والمقصود به أن الكون تم تهيئته ليسمح بنشوء الحياة العاقلة الواعية[2].


[1]  ريتشارد موريس ، حافة العلم – عبور الحد من الفيزياء إلى الميتافيزيقا ، ترجمة د. مصطفى إبراهيم فهمي ، منشورات المجمع الثقافي – أبو ظبي – الإمارات العربية المتحدة ص217-220

[2]  Barrow, John D.; Tipler, Frank J. (1988). The Anthropic Cosmological Principle. Oxford University Press.

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد

‎مؤخرة الموقع