عن تيار الإلحاد الجديد …

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

الإلحاد الجديد New Atheism هو اصطلاح معتبر في الدوائر الثقافية والفكرية والصحفية، رغم وجود تحفظات على استعماله في الدوائر الأكاديمية، ويشير إلى موجة إلحادية متعاظمة في الغرب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، فقبلها كان الملحدون لا ينخرطون كثيرًا في الطعن على الأديان ولا الدعوة لاستئصالها ومحوها من الوجود في المجتمع وفي عالم الأفكار والعقول، لكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 والتي أتهم فيها دين الإسلام وتعاليمه ثم رد فعل الإدارة الأمريكية التي أعلن رئيسها عن شن حرب صليبية على العالم الإسلامي وقام فعلاً بغزو أفغانستان والعراق، بعد هذه الأحداث شعر الملحدون أن الأديان سوف تؤدي إلى قيام حرب عالمية ثالثة تبيد الحضارة على كوكب الأرض وتقضي على الوجود البشري بأكمله، وأن هذا إن لم يحدث في العاجل فسوف يحدث لا محالة -من وجهة نظرهم- في مستقبل الأيام، وأن الأديان بهذه الصورة صارت خطرًا يهدد الحضارة والإنسانية ويجثم على صدرها، وأنه لا خلاص للجنس البشري ولا نجاة من هذا المصير الأليم والهلاك الوشيك إلا بالتخلص من الأديان كلها تمامًا، وأن يصبح العالم بلا أديان.

يمكننا بالفعل أن نؤرخ لبداية صعود الإلحاد الجديد بأحداث 11 سبتمبر 2001، ففي عام 2004 صدر كتاب الملحد سام هاريس Sam Harris (نهاية الإيمان) End of Faith الذي كان من أكثر الكتب مبيعًا في أمريكا، وكان فاتحة سلسلة من كتب الإلحاد الأكثر مبيعًا في العالم. في هذا الكتاب أشار سام هاريس إلى أن أحداث 11 سبتمبر -التي ألقى فيها اللوم على دين الإسلام بشكل مباشر- هي الدافع لكتابته هذا الكتاب، وهاجم اليهودية والنصرانية بشكل عنيف، لكنه خص الإسلام بفصل طويل، هو أطول فصول الكتاب، أسماه (مشكلة الإسلام) Problem With Islam، وتوسع فيه في نقد الإسلام كدين والتحريض على المسلمين كأمة مؤمنة رجالاً ونساءً وشيوخًا وأطفالاً، واعتبر مجرد وجودهم خطرًا يهدد الغرب والحضارة الغربية، متبنيًا أطروحة صمويل هنتنجتون في صدام الحضارات التي تصور العلاقة بين الإسلام والغرب في هيئة صراع صفري لا بد أن يقضي فيه طرفٌ على الآخر! فرؤيته هو أن الغرب ليس أمامه إلا أن ينتصر على الإسلام بالحجة أو بالحرب (ص 131)، وبما أن القوم تعوزهم الحجة، فلا سبيل لديهم إلا الحرب! في هذا الكتاب أيضًا ذكر الاعتقاد الديني -ضمن قائمة تحوي كذلك الجهل والكراهية والجشع- كأحد الشياطين التي تعبث في عقول البشر، ثم هو يرى أن الدين هو الأداة الرئيسية في يد الشيطان devil’s materpiece (ص226). والحقيقة أن هاريس اكتفى في الكتاب بإعلان نفير الحرب على الدين دون أن يتطرق كثيرًا إلى مسألة نفي وجود الخالق، وكأنه يرى أن الاكتفاء برفض الأديان يعني بالضرورة نفي وجود الخالق! وبعد عامين قام بكتابة (رسالة إلى أمة نصرانية) Letter to A Christian Nation وواصل الإهانات معتبرًا الدين في الجانب الخاطئ في حرب الأفكار (ص 80)، وأن خلاص العالم يعتمد على انتصار هؤلاء الذين يقفون في الجانب الصحيح، أي: ضد الدين.

من ضمن هؤلاء الذين يقفون في الجانب الصحيح -من وجهة نظر هاريس- الفيلسوف الملحد دانييل دينيت Daniel Dennet الذي يسعى إلى فك ألغاز الدين في كتابه (إبطال السحر : الدين كظاهرة طبيعية) Breaking the Spell: Religion As A Natural Phenomenon الذي صدر عام 2006 والذي يلعب فيه دينيت دور الحكيم العاقل في نقده لظاهرة الدين، لكن ميوله الإلحادية تظهر بوضوح حيث أن الدين في وجهة نظره قوة خطيرة تحتاج إلى دراسة علمية حصيفة من أجل التحكم فيها والسيطرة على شرورها، لأنها في نظره ليست إلا تعبيرًا عن الجهل وقلة الوعي. وهو يسعى في الكتاب لتقديم تفسير مادي طبيعاني لظهور الإيمان بالله، ويقترح أنه ربما نشأ في المخ مركز للإيمان بالله عن طريق التطور الدارويني! وأن هذا المركز استمر في البقاء عبر الانتخاب الطبيعي نظرًا لميزته التنافسية في توفير الصحة النفسية والروحية لأصحابه (ص 138). وهو يرى أن البراهين على وجود الله ضعيفة وواهية لم تستغرق في إبطالها إلا ست صفحات خفيفة، مشيرًا إلى ما كتبه ريتشارد دوكينز من نقد لهذه الأدلة في كتابه الشهير (وهم الإله). وبما أن الاعتقاد الديني يمكن تفسيره بدون اللجوء إلى فكره وجود إله، فهو في نظر دينيت ليس إلا وهم. وهذا الوهم ليس له كبير فائدة، بل ما ينبغي مناقشته ودراسته بخصوصه هو مدى ضرره وخطره.

في عام 2006 أيضًا عرض ريتشارد دوكينز Richard Dawkins الفيلم الوثائقي (أصل كل الشرور) Root of All Evils طاعنًا في وجود الله عز وجل وفي جميع الأديان، ثم أتبعه بكتابه الأشهر على الإطلاق (وهم الإله) The God Delusion الذي ظل شهورًا طويلة على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في العالم وطبع منه ملايين النسخ وترجم إلى العديد من اللغات.

كذلك خرج علينا الملحد فيكتور ستينجر Victor Stenger عام 2007 بكتاب (الله: الفرضية الباطلة) God: Failed Hypothesis والذي يسعى فيه لإظهار أن التقدم والتطور العلمي الحديث قد أثبت بشكل قاطع أن الله غير موجود. ثم ينتقل إلى الكلام المعتاد للملاحدة عن كوننا لا نحتاج الدين ليعطي حياتنا المعنى والقيمة، بل هو مصدر الشر في العالم.

لكن الهجوم الأكثر ضراوةً وغضبًا وهياجًا على الدين –خصوصًا الإسلام- يأتي من كتاب كريستوفر هيتشنز Christopher Hitchens (الله ليس عظيمًا: كيف يسمم الدين كل شيء) God is Not Great: How Religion Poisons Everything الصادر في 2007 . ويسعى هذا الكتاب إلى الحفر والتنقيب في تاريخ الأديان ليكشف جرائمها وشرورها التي حلت على العالم على مدار التاريخ. ويجعل هذه الأحداث التاريخية هي المعبرة بحق عن جوهر الدين وحقيقته، فالدين -من وجهة نظره- قد أدى بأعداد من البشر لا حصر لها إلى ارتكاب أفعال شنيعة يشيب لها الولدان. فمرض شلل الأطفال عاد للظهور في عدة بلدان إسلامية بسبب فتاوي الشيوخ الذين يزعمون أن التطعيم ضد شلل الأطفال مؤامرة من أمريكا (ص 45)، وختان البنات يمارس في أفريقيا (ص 50)، وسن الزواج في إيران هو التاسعة (ص 51)، ويمكن اغتصاب المرأة في باكستان للتكفير عن الجرائم التي يرتكبها أخوها (ص 46)، وأنصار بن لادن يستعملون الجن لتأييدهم في المعارك (ص 59). ورغم إقراره بأن التنظيمات اللادينية قد ارتكبت جرائم مماثلة (ص 6) إلا أنه يعتقد أن الدين لا يملك أي محاسن تقابل هذه الشرور، ومن يعتقد وجود هذه المحاسن ليس إلا شخص غارق في سوء الفهم والأحلام الوردية (ص 5).

طبعًا لا يمكن الالمام بكل الكتب ولا كل الأطروحات التي تطعن في الدين ضمن موجة الإلحاد الجديد، لكن حسبنا هنا أن نشير إلى أبرزها. وفي الحقيقة فقد خرجت علينا هذه المجموعة من الكتب الإلحادية التي حققت مبيعات كبرى مما جعلها تتصدر قائمة الكتب الكثر مبيعًا لأسابيع وشهور وهي تعطينا فكرة وافية عن دوافع وسمات ظاهرة الإلحاد الجديد في الغرب.

وفي هذا الصدد تجب التفرقة بين الإلحاد الجديد والإلحاد الشيوعي؛ لأنه استقر لدى عديد من المفكرين والدعاة في عالمنا العربي ارتباط الإلحاد والدعوة إليه بالشيوعية، وأنه ما دامت الشيوعية في أفول، فالمتوقع للإلحاد أن يكون كذلك[1]. وهذا توصيف غير سليم لحقيقة الحالة الإلحادية، وخطورته أنه يؤدي إلى الاستهانة بها وعدم القدرة على التعامل مع أطروحاتها بدقة وموضوعية. كذلك تجب التفرقة بينه وبين إلحاد عصر التنوير فهو يتميز بالغزارة الفلسفية بخلاف الإلحاد الجديد الذي يتجاهل الفلسفة ويركز على أطروحات مشتقة من معطيات العلم الطبيعي. فالإلحاد الجديد الآن لا يمكن تناوله كأحد أعراض التمذهب الشيوعي أو كرد فعل لاضطهاد الكنيسة وصراعها مع العلم، بل هو ظاهرة ذات ظروف تاريخية مختلفة تمامًا عن الظواهر الإلحادية السابقة.

كذلك الإلحاد في عصرنا الحالي يختلف عن الإلحاد التاريخي القديم الذي كان مقتصرًا على نخبة صغيرة من الفلاسفة أو المفكرين في الصالونات المغلقة، وكان غير منتشر على نطاق واسع بين عوام الناس، ولم تُعرف أمة في التاريخ مذهبها إنكار وجود الصانع. أما الآن فنحن نشهد دولاً وأممًا كاملة تدين بإنكار وجود الله عز وجل أو تتشكك في وجوده، ففي الدول الاسكندنافية مثل السويد والنرويج وفنلندا والدنمارك نجد أن غالبية السكان من الملحدين واللاأدريين، في ألمانيا 30% من السكان ملاحدة، في فرنسا 40% ملاحدة، وهكذا. فلم يعد الإلحاد حالة نخبوية ضيقة، بل صار لها وجود شعبي وقاعدة عريضة بين أمم من الخلق. فلم يعد من المناسب الآن الكلام عن الإلحاد أنه شذوذ مجتمعي أو أن الملاحدة أقلية ضئيلة لا يمكن أن يكتب لها الانتشار.


[1] يوتيوب : عمرو اديب حلقة كاملة عن الالحاد والملحدين سؤال هل تلاحظ انتشار الإلحاد في مصر؟! لقاء مع علماء الاسلام https://www.youtube.com/watch?v=fkRupdJSkSA

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد

‎مؤخرة الموقع