مسألة هامة في حوار الملحد أو المتشكك

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

 لابد أن نتفق على أسس الحوار

من الطبيعي ألا تحتج على الملحد بنصوص القرآن والسنة، لأنه لا يؤمن بهما كوحي من عند الله، وبالتالي فلا يمكن ان يكونا مرجعية للحوار بين الطرفين. لكن في نفس الوقت لابد من وجود مرجعية مشتركة يقوم على أساسها الحوار، بحيث تكون حكمًا بين وبين المخالف نحتكم إليها عند الخلاف، وإلا صار النقاش مع الملحد عبارة عن حوار طرشان، ليس فيه ضابط ومعيار نحدد على أساسه الصواب من الخطأ.

إذن نحتكم إلى المشترك الإنساني الذي يشترك ويتفق فيه كل البشر:

  • العقل،
  • والحس.

لماذا من الضروري الاتفاق على حاكمية العقل؟ حتى لا يأتي الملحد لينكر مباديء العقل في الحوار مثل: السببية وعدم التناقض، فلا مساومة في حاكمية العقل، لأنه هو الحد المميز للعقلاء، فإذا أنكرناه أو شككنا فيه خرجنا من زمرة العقلاء. وبديهي أنه لا يمكن الحوار مع غير العقلاء، لأنه لن يكون هناك حوار أصلاً!

كذلك الحس؛ لا يمكن التشكيك في مصداقية الحواس، كما نرى في بعض الأفلام الغربية[1]. فإن تصديق الحواس والاعتماد عليها أمر فطري بديهي.

أو يمكن إرساء مبدأ مصداقية الحواس عن طريق قياس الأولى، أذكر أني بعد إلقائي محاضرة في جامعة الفيوم عن الأدلة على وجود الله، سألتني طالبة كيف نتأكد من أننا فعلاً نعيش في هذه الحياة كما نراها ونسمعها بحواسنا، ولماذا لا تكون مجرد وهم في الذهن وليست حقيقية! فقلت لها: دعيني أسألك أولاً؛ كيف تتصرفين عندما يكون لديك اختبار في الكلية؟ هل تذاكرين بجد واجتهاد؟ قالت: نعم. فسألتها: هل تذهبين للاختبار وتخرجين من المنزل وتركبين السيارة وتدخلين قاعة الاختبار وتبحثين عن مقعدك ورقم جلوسك ثم تذهبين وتجلسين في مكانك بعد التأكد منه؟ قالت: نعم، بكل تأكيد! قلت لها عندئذٍ: ألم يخطر ببالك في خضم كل هذا أن الاختبار وهم وأنه ربما لا يوجد اختبار ولا كلية ولا صالة امتحان ولا رقم جلوس؟ فقالت: لا، لا يخطر ببالي. فقلت لها: حسنٌ، سأسألك سؤالاً آخر! عندما تعبرين الشارع بالعرض، هل تنظرين يمنةً ويسرةً للتأكد من عدم وجود سيارات مسرعة قبل عبورك الطريق؟ قالت: نعم! فقلت: هل يخطر ببالك وقتها أن الشارع قد يكون وهم وأن السيارات وهم وأنه لا داع لكل هذه الاحتياطات؟ فقالت: لا، لا يخطر ببالي!

عندها قلت لها: إذا كنت في أمرٍ تافهٍ كعبور الشارع تأخدين الموضوع بجدية واهتمام وتتخذين كل الاحتياطات لضمان سلامتك، ولا يخطر ببالك أن هذا وهم، أليس من الأولى أن تأخذي أمر الحياة الدنيا التي ينبني عليها مصيرك في الآخرة إما إلى الجنة أو إلى النار أيضًا بأهمية وجدية؟ وإذا كنت في اختبار الكلية الذي تتوقف عليه سنة دراسية واحدة فقط تأخذين الموضوع بجد واجتهاد وتسعين لتحصيل النجاح وتحصيل أسبابه، ولا يخطر ببالك أن هذا وهم، أليس من الأولى أن تأخذي أمر اختبار الحياة الدنيا التي يتوقف عليه الخلود في الجنة أو النار أيضًا بجد واجتهاد؟

وهذا هو المقصود بقياس الأولى: إذا كان الإنسان في أموره العادية وحياته اليومية لا يتوقف ليتشكك في مصداقية حواسه نظرًا لأهمية هذه الأمور عنده، فإنه أولى بألا يتشكك فيها في أمرٍ عظيمٍ هو أهم شيء في حياة الإنسان بأسرها. وهذا من صدق المرء واتساقه مع نفسه، ومن يخالف ذلك يكون مغالطًا متناقضًا.

وأهمية الاتفاق على ضروريات العقل ومصداقية الحواس هي أنها تضع إطارًا سليمًا للنقاش، سواء كان حوارًا أو مناظرة، ولذلك لا يمكن الحوار مع السفسطائي، لأنه ينكر الضروريات العقلية والحسية، وفي هذا السياق يقول ابن تيمية: ((الشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان؛ لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طرق النظر والبحث، ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، بل إذا كان جاحدًا معاندًا عوقب حتى يعترف بالحق، وإن كان غالطًا إما لفساد عرض لحسه أو عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم، وإما نحو ذلك فإنه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه، فإن عجز عن ذلك لفساد في طبيعته عولج بالأدوية الطبيعية، أو الدعاء والرقى والتوجه ونحو ذلك وإلا ترك))[2].

فإذا اتفقنا مع الملحد أو المتشكك على هاتين النقطتين:

  • حاكمية العقل،
  • ومصداقية الحواس

عندها يمكن الحوار حول الأدلة على وجود الله.


[1] مثل Matrix أو Inception

[2] ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ج3 ص310

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد