في بيتنا أزمة

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

من سنوات عديدة جالست أحد الشباب الملحدين للحوار معه، وكان هذا الشاب إنسان مسكين، صغير السن، متواضع الحال، لا يعرف الكثير عن الإلحاد، ولا حتى عن سنن الحياة ومشاكلها وابتلاءاتها، مما دفعني لسؤاله عن مشاكله الشخصية، فحكى لي قصة أسرته، وأن هناك خلافات كبيرة مستمرة بين أبيه وأمه، وكان يدعو الله ألا تتفاقم المشاكل إلى درجة الطلاق، وأخبرني كيف كان يدعو ويلح في الدعاء، ويبكي بحرقة، ويسأل الله بصدق، لكن الله قدّر وقوع الطلاق وتحطيم الأسرة!
وحكى لي كيف انتابه السخط والحنق حينها، لأن الله لم يجب دعائه وذُلّه وتضرعه، مما أدى به إلى إنكار وجوده، واعتناق الإلحاد.
وهذه الحكاية تعتبر نموذجًا نراه بشكل متكرر عند من يعتنقون مختلف الانحرافات الفكرية؛ نموذج السخط والتمرد على الخالق مدبر الكون، وهو يعود إلى وقوع المرء في محنة أو أزمة أو ابتلاء شديد، وفي هذا الابتلاء هو يدعو الله بشدة وإلحاح أن يرفعه عنه ويدفعه عنه، لكن البلاء مستمر والمحنة قائمة لا تزول، فتكون النتيجة هي اليأس والقنوط من رحمة الله، فيسخط ويتمرد، فيقع عندها في براثن الإلحاد وإنكار الخالق، أو الارتماء في أحضان غيره من المذاهب مثل الفلسفات الشرقية والعلاج بالطاقة!

 أعرف على سبيل المثال طبيب زميل ألحد بعد أن توفى والده بسبب فشل الكبد، وكان متعلقًا به بشدة، وقد كان يجتهد في الدعاء له بالشفاء، ولكن قضاء الله نفذ، فألحد يأسًا من رحمة الله!
وأعرف كذلك قصة من اعتنقت الإلحاد الروحي والفلسفات الشرقية والعلاج بالطاقة بعد وفاة زوجها الذي كانت متعلقة به بشدة، ولم تكن تتصور الحياة بدونه، فلما مات لم تستطع الصبر والثبات إلا باللجوء إلى الوهم والخرافة!

 والحقيقة أنه لا أحد يعيش بدون ابتلاءات ومحن وأزمات، فهذه هي سنة الحياة، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ، ليعلم الناس أن الابتلاء سنة كونية مركوزة في هذا الكون، مرتبطة بنظامه وسننه وقوانينه، فيعظم الناس هذه السنة الكونية، ويشعروا بأهميتها ويحملونها على محمل الجد.

 فليست المسألة صدفةً بلا قصد، وليست عبثًا بلا حكمة، وليست اعتباطيةً بلا غاية، وإنما الابتلاء بالشرور سنة مقصودة لإظهار المكنون في نفوس بني آدم في صورة أفعال وسلوكيات يكون عليها الجزاء، ثوابًا وعقابًا.

لكن ردود أفعال الناس للابتلاءات تختلف من شخص لآخر، فمنهم من يزيده البلاء قربًا وتعلقًا بالله، ولجوءً وتضرعًا إليه، وعلى الجانب الآخر هناك من ييأس من رحمة الله، ويقنط ويكفر بالله!

 والفرق بين هؤلاء وهؤلاء هو توفر الاستعداد أو القابلية عند وقوع البلاء ، فمن عنده استعداد للكفر والإلحاد تجده ييأس ويقنط عند شدة البلاء، بخلاف من ليس لديه هذا الاستعداد فتجده بفطرته يلجأ إلى الله لرفع البلاء. وهذا الاستعداد قد يكون فكريًا أو عاطفيًا؛ فكريًا في صورة قناعات فاسدة مسبقة، أو عاطفيًا في صورة ميل إلى التمرد والعصيان!

فإذا اجتمع البلاء والاستعداد وقع الشاب في الالحاد أو غيره من زخارف الانحرافات، وتحول هذا الاستعداد إلى انحراف فعلي. لهذا يجب علينا أن نربي النشء على معاني الصبر على الابتلاءات والثبات عند الشدائد، حتى يكونوا مؤهلين نفسيًا لخوض تحديات الحياة دون أن ينهاروا أو ينكسروا أو ينحرفوا!
كذلك على كل إنسان أن يفهم السنن الإلهية في أن يبني علاقة صحية متينة مع الله في السراء، حتى يستطيع أن يلجأ إليه بشكل صحيح في الضراء. وللأسف كثيرٌ من الناس دومًا ما يحسن الظن في نفسه، مع كل ما فيه من تقصير، ويسيء الظن بربه جل وعلا!

 دعوني أضرب لكم مثالًا من واقع السنن الربانية: في الحديث أن ((الذي تفوته صلاة العصر، كأنما وتر أهله وماله)) ، أي: فقد أهله وماله فصار وترًا فردًا وحيدًا، وهذا فيمن تركها سهوًا غير متعمد، فهي مصيبة عظيمة وانحطاط إيماني كبير، أما من تعمد تركها فينطبق عليه حديث ((ﻣﻦ ﺗﺮﻙ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﻓﻘﺪ ﺣﺒﻂ ﻋﻤﻠﻪ)) . ثم تأمل عادة كثير من الناس في إهمال صلاة العصر عمدًا أو جهلاً أو سهوًا، ثم يشكو أنه يدعو ولا يستجاب له، وهو مع هذا يحسن الظن بنفسه وأنه يستحق كل خير ونعمة وبركة!! وعلى هذا قس العديد من الفرائض التي يضيعها الناس ويلتمسون لأنفسهم الأعذار، ثم لا يقبلون من الله تعالى إلا أن يحقق أحلامهم ويجيب دعائهم!

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد