الميمات وڤيروس الإيمان عند ريتشارد دوكينز

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

الميم meme فكرة شيقة جدًا تلعب دورًا بارزًا في كتابات دوكينز التي تحاول تفسير أصل الدين ووجود فطرة الإيمان بالله. تعود الفكرة إلى كتاب دوكينز (الجين الأناني) The Selfish Gene الذي صدر عام 1976، وتعتمد على أن هناك توازٍ بين التطور البيولوجي والتطور الثقافي، وأن كلاهما يعتمد على وحدات للتكاثر. في حالة البيولوجيا وحدة التكاثر في الجين، وبالمقابل تكون وحدة التكاثر المفترضة في الثقافة وعالم الأفكار هي الميم، وهذه الميمات تنتقل من مخ إلى آخر.

بالنسبة لدوكينز تعتبر فكرة الله هي مثال نموذجي للميم، حيث يرى أن الاعتقاد الديني ليس إلا إيمان أعمى غير مبني على دليل قابل للفحص، إذن لماذا يؤمن الناس بالله بينما هذا الإله غير موجود؟ في الإجابة على هذا السؤال هو يقترح وجود ميم الإله god meme الذي يقوم بالتكاثر داخل أمخاخ البشر، وأن هذا الميم له قدرة عالية على البقاء والانتقال من مخ إلى آخر في البيئة الثقافية للبشر[1]. فالناس لا يؤمنون بالله لأن لديهم فطرة تدعوهم إلى هذا أو لأنهم قاموا بالنظر والتدبر في المسألة، بل لأنهم مصابون بالعدوى من ميم قوي تسلل إلى أدمغتهم!

لكن هل سبق لأحد أن رأى هذه الأشياء وهي تتسلل من مخ لآخر أو ترقد في مخ ما؟ المسألة هنا ليست متعلقة بالدين، بل بفرضية علمية مزعومة ليس لها تعريف إجرائي دقيق أو نموذج للاختبار حول كيفية انتشارها وتأثيرها في الثقافة الإنسانية، فضلاً عن كونها بمعزل هن نماذج علم الاجتماع المعنية بانتشار الثقافات والأفكار وتفاعلها.

الميمات عبارة عن مفهوم بيولوجي نابع من اعتقاد دوكينز الأصيل في قدرة الداروينية على تفسير كل شيء. لكن لماذا يسعى علم الأحياء إلى تفسير جوهر الثقافة؟ أليس هذا هو مجال علماء الإنسانيات والاجتماع؟

الميم مفهوم هلامي يسعى دوكنيز كعالم أحياء تطوري عن طريقه إلى تفسير ظواهر ثقافية تقع في إطار علوم أخرى ليس من مجال تخصصه[2].

في كتاب (وهم الإله) يقدم دوكينز الميمات كما لو كانت فكرة علمية راسخة متجاهلاً حقيقة مكانتها الهزيلة في الدوائر العلمية. يقدمها دوكنيز كما لو كانت ذات وجود حقيقي في الواقع ويزعم قدرتها على تفسير فطرة الإيمان بالله وأصل الدين في الإنسان. لكن قبل أن نبلغ هذه المرحلة لابد من وجود اعتراف فعلي في الدوائر العلمية المعتبرة بصحة هذه الفرضية وأن العلم بحاجة إليها فعلاً.

يقوم نقد دوكينز للدين اعتمادًا على افتراض وجود شيء –أي: الميم– لا يمكن رصده وليس له ضرورة علمية، بل يمكن الاستغناء عنه بمنتهى السهولة. لكن أليس هذا هو نفس محور النقد الإلحادي لوجود الله؟ أليس الله –من وجهة نظرهم– فرضية عن وجود شيء لا يمكن رصده وليس له ضرورة علمية بل يمكن الاستغناء عنه؟ بل إن الدليل العلمي على وجود الميمات أضعف بمراحل من أدلة المؤمنين على وجود الله. وقوع دوكينز بهذه الصورة في عين ما ينكره على المؤمنين بوجود الله يدل على أن القوم ليس لديهم منهجية علمية فعلية، وأن ما يتشدقون به من اتباع العلم والدليل ليس إلا بروباجندا دعائية ومتاجرة بالعلم لترويج الإلحاد لا أكثر.

فيروس الإيمان :

يجدر بنا عند هذه النقطة أن نشير إلى مفهوم جديد أدخله دوكينز إلى ساحة الجدل بين الدين والإلحاد، وهو مفهوم فيروس الإيمان، ففي عمل وثائقي كبير قام دوكينز بترويج مفهوم أن الإيمان بوجود الله هو عبارة عن فيروس عقلي يصيب العقول السليمة[3]. بالطبع الرسالة قوية وواضحة في ظل موقف المرء العادي من الفيروسات البيولوجية التي تسبب الإيدز وغيره من الأمراض، ومن فيروسات الكمبيوتر التي تخرب أجهزة الكمبيوتر وتصيبها بالعطب والشلل، وبالتالي فالمعنى السلبي الذي سيتلقاه القارئ أو المشاهد بخصوص الإيمان بوجود إله سيكون غاية في الوضوح. وبما أن فطرة الإيمان بالله –من وجهة نظر دوكينز– ليست إلا وهم غير عقلاني، فلابد من وجود تفسير علمي لانتشار هذا “الوهم” على هذا النطاق الواسع بين الناس والأمم والشعوب، لهذا خرج علينا بهذه الأطروحة أن الإيمان بالله فيروس عقلي يعدي الناس وينتقل من شخص إلى آخر!

الفيروسات البيولوجية ليست فرضية، بل يمكن رؤيتها وملاحظتها في المعمل وفي الكائنات الحية المصابة وتحديد شكلها وتركيبها وطريقة انتشارها. أما فيروس دوكينز فهو فرضية جدلية ليس إلا، وغرض هذه الفرضية هو الحط والتحقير من الأفكار التي لا تعجب دوكينز.

هل كل الأفكار فيروسات عقلية؟ دوكينز هنا يفرق بين الأفكار العلمية العقلانية المبنية على الدليل والأفكار الوهمية غير العقلانية مثل الأفكار الدينية، فهذه الأخيرة تعتبر فيروسات عقلية. وهنا يبرز السؤال: ما هو معيار التفرقة بين العلمي وغير العلمي؟ أو بين العقلاني وغير العقلاني؟ دوكينز لا يرى أي مشكلة في هذا الأمر حيث يرى بإمكانه التفرقة بسهولة بين هذا وذاك. في الحقيقة هذا وضع كارثي؛ لأنه يعني الاعتماد على الحكم والتقييم الشخصي لريتشارد دوكينز على الأفكار، فهل هذا هو العلم والأسلوب العلمي الذي يبشرنا به دوكينز وأضرابه من الملاحدة الجدد؟


[1]  Richard Dawkins, The Selfish Gene, 2nd ed (Oxford: Oxford University Press, 1989), p. 193

[2] James W Polichak, “Memes—What Are They Good For?” Skeptic 6, no. 3 (1998): 45-54

[3]  Youtube: The Root of All Evil? – “The Virus of Faith”

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد

‎مؤخرة الموقع