دلالة المعلومات الحيوية على وجود الله

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

الاستدلال بالمعلومات الحيوية على وجود الله يتجاوز مجرد الاستدلال بوقوع التنظيم إلى النظر في مصدر المعلومات الموجودة على الشريط الوراثي، حيث أن الشريط الوراثي DNA يمثل شفرة معلوماتية أشبه ببرنامج الكمبيوتر ويتم ترجمتها عن طريق الخلية إلى البروتينات ذات الوظائف المختلفة داخل الخلية الحية. وهذه الشفرة المعلوماتية تدفعنا دومًا للسؤال المهم: من أين جاءت المعلومات؟ من الذي كتب برنامج الخلية بهذه اللغة الفريدة؟

في القرن الحادي والعشرين صارت المعلومات الحيوية biological information هي الشغل الشاغل لعلماء البيولوجيا. عندما اكتشف جريجور مندل Gregor Mendel في القرن التاسع عشر أن بعض الخصائص الحيوية تنتقل من جيل إلى جيل في صورة عبوات دقيقة منفصلة من المعلومات -الجينات- ربما كان لديه وقتها فكرة باهتة عن طبيعة المعلومات الحيوية. نحن الآن اكتشفنا أن هذه الجينات هي الحقيقة تعليمات دقيقة ومحددة وغاية في التعقيد ومشفرة لغويًا بحيث أن كل جين يكاد يكون كالكتاب في تعقيده وخصائصه المتطورة.

عندما اُكتشف الشريط الوراثي DNA، ظهر أن المعلومات الجينية أشبه ما تكون بالمعلومات التي يكتبها الإنسان؛ فلها شفرة لغوية وشريط من الحروف يمثل في النهاية نصًا لغويًا. من أين جاءت هذه النصوص اللغوية؟ عند علماء البيولوجيا الذين يتبنون نظرية التطور، الصدفة المحضة ثم التطور الدارويني يعللان ظهور هذه النصوص المعلوماتية! وقد بذل هؤلاء العلماء جهودًا جبارةً في محاولة تفسير هذا الكم المعلوماتي الهائل في الشريط الوراثي عن طريق الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي، وأغرقوا المجلات العلمية بتصوراتهم وتبريراتهم، وحاربوا بضراوة أي مخالفة للنموذج الدارويني حتى أنهم يعتبرون من يخالفه خائنًا للعلم ذاته!

لكن الحقيقة أنه أمام الزيادة المطردة في الاكتشافات الجينية في المحتوى المعلوماتي في الشريط الوراثي تضاءلت قدرة النموذج الدارويني السائد -المبني على الصدفة والعشوائية- على تفسير ظهور هذه المعلومات خصوصًا مع دقتها البالغة وتعقيدها العميق، كما يظهر في الرسم البياني بأسفل حيث نجد أن هناك انفجارًا معلوماتيًا هائلاً تم اكتشافه مؤخرًا في الشريط الوراثي يقابله انخفاض واضح في القدرة التفسيرية للنموذج الدارويني[1].

يدرك العلماء الآن أن المفهوم التبسيطي للمعلومات الحيوية على الشريط الوراثي (الـDNA يكوّن الـRNA الذي يكوّن البروتين الذي يؤدي المهام الحيوية داخل الخلية) صار الآن موغلاً في السذاجة والسطحية. فقد بدأ القوم مؤخرًا في استيعاب أن المعلومات الحيوية متعددة الأبعاد بشكل عميق جدًا وتتحرك في جميع الاتجاهات من خلال شبكات اتصالات واسعة النطاق، وأن الطبقات المختلفة للمعلومات لا تتجاوب فقط مع المحيط الخلوي، لكنها متداخلة بقوة مع البيئة الخارجية كذلك[2]. فالخلية -في ضوء الاكتشافات الحديثة- عبارة عن شبكة تفاعلية من أجهزة الكمبيوتر، وليست مجموعة من الكتب الصماء[3].

نحن بحاجة إلى هضم مفهوم المعلومات الحيوية جيدًا، فلا معنى الآن للمفهوم القديم (الجينوم يشفر بروتين)، فالمعلومات الحيوية ليست في الحقيقة مقصورة على الجينوم الذي هو ليس إلا القرص الصلب Hard Drive للخلية أو المعلومات الثابتة المخزنة، أما الذاكرة المؤقتة RAM فهي هذه الغابة من أحماض الـRNA والبروتينات التي تشكل شبكة الاتصالات المتطورة داخل الخلية، هذه الشبكة هي التي تعبر عن مدى الحيوية والنشاط البيولوجي في الخلية. يمكننا الكلام عن الـRNA والبروتينات على أنها وحدات معلوماتية عاملة فعالة تحدد طريقة طيّها ونقلها وعملها وارتباطاتها مع غيرها من الجزيئات البيولوجية. أعداد لا يمكن حصرها من الرسائل يتم تبادلها بين القرص الصلب -أي: الجينوم الوراثي- والذاكرة المؤقتة -أي: الـRNA والبروتينات-، كذلك هناك قدر لا نهائي من الرسائل يتم تبادله بين الأجزاء المختلفة من الشريط الوراثي ومثلها بين أحماض الـRNA والبروتينات المختلفة. هذه الرسائل المتواصلة التي يتم تبادلها بين الأجزاء المختلفة للخلية تتجاوز قدرتنا على العد والحصر، فهي أشبه بشبكة الانترنت!

فوق كل هذا هناك تبادل للرسائل والمعلومات يتم بانتظام بين الخلايا المختلفة، كذلك بين الأنسجة المختلفة، وبين الأعضاء المختلفة، وبين الأفراد بعضهم البعض .. فسبحان الله أحسن الخالقين!

لعشرات السنين ظل العلماء يعتقدون أنه لا توجد إلا شفرة جينية واحدة ولغة واحدة يتكلم بها الشريط الوراثي، وهي لغة تشفير البروتينات، وأن الشريط الوراثي في الإنسان لا يعمل منه إلا 2% فقط وأن الباقي مجرد فضلات ليس لها قيمة Junk DNA. لكن في العشر سنوات الأخيرة صار من الواضح أن غالبية هذه “الفضلات” فعالة وذات وظائف حيوية[4] مما يعني أنه ما زال هناك العديد من المعلومات التي تحتاج إلى تفسير، كما يعني أنه هناك أكثر من شفرة واحدة أو لغة واحدة للشريط الوراثي DNA لا تقتصر فقط على تتابع القواعد النيتروجينية.

في الواقع، فإن حقيقة وجود أكثر من لغة (شفرة جينية) للشريط الوراثي وأن هذه اللغات تتداخل وتتضافر هي أمر يخطف الألباب[5]، فبالإضافة إلى الشفرة الوراثية الأساسية هناك شفرات النسخ transcription وشفرات تريفانوف Trifanov وشفرات القص وشفرات طيّ ومعالجة الـRNA وغيرها، وعلى مستوى آخر تمامًا تعمل شفرات أخرى مهمتها معالجة الجينوم نفسه مثل شفرات الأيزوكور isochore وشفرات تموضع النيوكليوسوم nucleosome-positioning وشفرات ثلاثية الأبعاد التوبولوجية topological 3-D والشفرات اللاجينية epigenetic. وهناك كذلك العديد من الشفرات العاملة لأداء وظائف أخرى كثيرة في الشريط الوراثي[6]، وما زال هناك المزيد من الشفرات التي يتم اكتشافها يومًا بعد يوم.

دعونا نسأل هذا السؤال: كم عدد الجينات في الجينوم البشري؟ تذكر المراجع التقليدية أنها حوالي 20 ألفًا. لكن في الحقيقة ما نسميه جين هو مجرد تبسيط مبالغ فيه over-simplification؛ لأن كل جين يحوي عددًا كبيرًا من العناصر الوظيفية الفعالة التي تشفر العديد من أحماض الـRNA والبروتينات، فإذا أعدنا تعريف الجين لشمل كل عنصر من هذه العناصر، فربما يبلغ عدد الجينات الحقيقي المليون أو أكثر!

في ضوء كل هذه المعطيات فإن إدراكنا لحقيقة المعلومات الحيوية داخل الخلية يتسع بشكل جنوني يعجز البشر عن ملاحقته. وفي المقابل تعجز آليات نظرية التطور عن تفسير وجود كل هذه المعلومات بهذا القدر البالغ من العمق والتعقيد والتشابك والتداخل الذي لا يمكن تفسيره إطلاقًا بأنه صادر عن الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي[7].

والخلاصة أنه فضلاً عن حقيقة أن القوانين الثابتة في العالم قد تؤدي فعلاً إلى وجود نظام order وانتظام regularity، لكن هذه القوانين بحسبها لا تفسر وجود أنظمة معقدة تحوي شفرات معلوماتية مثل الشريط الوراثي. فمن الممكن فعلاً أن تصطف الحروف بجوار بعضها البعض بناء على متوالية هندسية معينة، لكن هذه الحروف لن يمكنها أن تضع لنا رواية رومانسية أخذ فيها البطل بمشاعر القراء وفعل كيت وكيت، ولا يمكن أن تضع بنفس الطريقة برنامجًا للكمبيوتر لتسيير سفن الفضاء وتوجيهها. كذلك لا يمكن أن تخلق لنا شفرات معقدة تقوم بتسيير مهام ووظائف الخلية بهذه الدقة والعمق والتعقيد.

فالحقيقة أن تتابعات النيوكليوتيدات nucleotides في الشريط الوراثي ليست تتابعات صماء، إنما هي شفرة معلوماتية غنية بالأوامر والتوجيهات والإشارات، بل هي لغة  -أو لغات- كاملة تتم ترجمتها من خلال آليات غاية في الدقة والإحكام إلى ما نراه في وظائف الخلية الحية. فهذه المعلومات لا يمكن أن تخرج إلى الوجود بالصدفة أو بمجرد فاعلية القوانين الصماء، بل لابد أن يكون لها خالق!

وهذا هو الفرق بين انتظام موجات البحر ورمال الصحراء وبين الشفرة الوراثية؛ فالنظام order في الأولى ناتج عن فاعلية القوانين الطبيعية غير العاقلة، أما تعقيد الشفرة الوراثية فهو نتيجة لغزارة المعلومات التي تحويها. لهذا لا تحتوي الأمثلة الأولى على معلومات، بينما تحتوي الأمثلة الثانية (الشفرات الوراثية – الكتب – برامج الكمبيوتر) على معلومات. لأجل هذا السبب لابد من أن يكون هناك خالق للكائنات الحية وأنها برهان جليّ على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته.


[1]  John C. Sanford (2013) Biological Information and Genetic Theory: Introductory Comments. Biological Information: pp. 203-209.

[2]  Jonathan Wells (2013) Not Junk After All: Non-Protein-Coding DNA Carries Extensive Biological Information. Biological Information: pp. 210-231.

[3]  Josiah Seaman (2013) DNA.EXE: A Sequence Comparison between the Human Genome and Computer Code. Biological Information: pp. 385-401.

Donald Johnson (2013) Biocybernetics and Biosemiosis. Biological Information: pp. 402-413.

[4]  Jonathan Wells, op. cit.

[5]  George Montanez, Robert J. Marks II, Jorge Fernandez, and John C. Sanford (2013) Multiple Overlapping Genetic Codes Profoundly Reduce the Probability of Beneficial Mutation. Biological Information: pp. 139-167.

[6]  Jonathan Wells, op. cit.

[7]  Paul Gibson, John R. Baumgardner, Wesley H. Brewer, and John C. Sanford (2013) Can Purifying Natural Selection Preserve Biological Information?. Biological Information: pp. 232-263.

John C. Sanford, John R. Baumgardner, and Wesley H. Brewer (2013) Selection Threshold Severely Constrains Capture of Beneficial Mutations. Biological Information: pp. 264-297.

Wesley H. Brewer, John R. Baumgardner, and John C. Sanford (2013) Using Numerical Simulation to Test the “Mutation-Count” Hypothesis. Biological Information: pp. 298-311.

John R. Baumgardner, Wesley H. Brewer, and John C. Sanford (2013) Can Synergistic Epistasis Halt Mutation Accumulation? Results from Numerical Simulation. Biological Information: pp. 312-337.

Chase W. Nelson and John C. Sanford (2013) Computational Evolution Experiments Reveal a Net Loss of Genetic Information Despite Selection. Biological Information: pp. 338-368.

Wesley H. Brewer, Franzine D. Smith, and John C. Sanford (2013) Information Loss: Potential for Accelerating Natural Genetic Attenuation of RNA Viruses. Biological Information: pp. 369-384.

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد

‎مؤخرة الموقع