دليل الافتقار الاضطراري على وجود الله

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

وهذا الاسم اقترحه د. خالد بن منصور الدريس في أحد محاضراته عن تهافت الفكر الإلحادي[1]، وهو دليل مشهور ومعروف، وهو لجوء المرء عند المحن والأزمات والابتلاءات إلى الفطرة السليمة التي هي مضطرة بطبعها إلى الإقرار بوجود الرب الخالق، وذلك لما تحتاج إليه النفوس السليمة من لجوئها إلى قوة عليا تستنجد بها عند حلول المصائب، أيا كانت هذه النفوس، مؤمنة أو كافرة. فإن النفس البشرية مضطرة عند حلول المصائب بها إلى الركون إلى تلك القوة العليا التي تتوجه إليها بالدعاء والاستغاثة بكشف الضر كما يقول تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[2]. ولقد لفت القرآن أنظارنا إلى هذه الاعتراف الفطري حيث قال في صيغة الاستفهام التقريري {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}[3].

والنفوس بطبعها أسبق إلى الاعتراف بالرب الخالق منها إلى الاعتراف بالإله المعبود، وذلك لعلم النفوس بحاجتها وافتقارها إلى من يحميها وتلوذ إليه عند نزول المصائب قبل علمهم بحاجتهم إلى الإله المعبود الذي تتوجه إليه بالعبادة دون غيره.

وهذه المعرفة الفطرية طبيعة مركوزة في كل نفس مؤمنة وكافرة، والنفوس تحسها بطبعها وتشعر بها، وإن غابت عنها في بعض الأحيان لسبب طارئ فسرعان ما تجد نفسها مضطرة إلى اللجوء إليها عند الشدائد. ولو لم تكن النفوس مفطورة على هذه المعرفة لما تطلعت إليها، بل لم تكن مطلوبة لها في الأصل. فإن معرفة النفس للشيء وإدراكها له تكون على ثلاثة مستويات:

  1. علم الإنسان بالشيء وتصوره له، لكن دون وعي أو إدراك واعٍ.
  2. علم الإنسان بالشيء وتصوره له مع الوعي والإدراك الواعي.
  3. علم الإنسان بالشيء وتصوره له بوعى وإدراك أقوى، وهو علمه بطريقة بلوغه هذا العلم.

ويلخص شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المستويات بقوله: ((إن علم الإنسان بالشيء وتصوره له شيء، وعلمه بأنه عالم به شيء، وعلمه بأن علمه حصل بالطريق المعين شيء ثالث))[4]. فكل نفس بشرية تعلم هذه الحقيقة، لكنها لا تظهر وتطفو على السطح إلا عند الاحتياج والافتقار الاضطراري. فإنه حتى المنكر لوجود الله الكافر به تجده عند المحن والشدائد والصدمات، التي تفجر مكامن الفطرة، يلجأ إلى الاعتراف بالله والإقرار بحاجته إليه وافتقاره إلى عونه ومدده. وأعظم العوامل التي تضطر المنكر إلى الإقرار بالفطرة هي الحاجة النفسية القاهرة، لأن معرفة النفس بما تحتاجه وتفتقر إليه وينفعها ويضرها أقوى من معرفتها بما لا تحتاج إليه ولا ينفعها ولا يضرها، ((ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري، وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى ما لا تتعلق به حاجتها))[5]، وبسبب هذا اشتدت حاجة المخلوق لخالقه، فإنه ((لاشيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه، فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته إذ كان هو الذي خلقهم، وهو الذي يأتيهم بالمنافع، ويدفع عنهم المضار {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[6]))[7]، والقرآن يحكي لنا في مواضع عديدة عن الكافرين الذي اضطروا تحت الخوف والرعب إلى الفرار إلى فطرتهم واللجوء إلى الله تبارك وتعالى {حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[8]، فإن ((الحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم، والاعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك، مشروط بالشعور بالمسؤول المحبوب المرجو، المخوف المعبود المعظم، الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والافتقار، الذي تواضع كل شيء لعظمته، واستسلم كل شيء لقدرته، وذل كل شيء لعزته، فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولابد لها منها، بل هي ضرورية فيها، كان شرطها ولازمها، وهو الاعتراف بالصانع والإقرار به، أولى أن يكون ضروريًا في النفوس))[9].


[1] يوتيوب : الجزء الثالث من دورة أ.د. خالد بن منصور الدريس ضمن فعاليات برنامج تهافت الفكر الإلحادي

[2] سورة العنكبوت : الآية 65

[3] سورة النمل : الآية 62

[4] ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ج8 ص534

[5] المصدر السابق، ج3 ص135

[6] سورة النحل: الآية 53

[7] المصدر السابق

[8] سورة يونس: الآية 22

[9] المصدر السابق، ج3 ص136

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد