الجواب عن سؤال: من خلق الله؟

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

يطرح الملاحدة اعتراضًا مفاده أنه إذا كان لكل مخلوق في هذا العالم -بل والعالم كله– خالق خلقه وهو الله، فمن الذي خلق الله؟ ثم من خلق خالق الله؟ ومن خلق خالق خالق الله؟ وهكذا إلى مالا نهاية.

وهم في هذا المسلك يقترحون أنه لا مانع من أن يكون لهذا الكون سبب ، ولهذا السبب سبب أعلى منه، ولهذا السبب الأعلى سبب أعلى، وهكذا إلى مالا نهاية. ورغم ظهور بطلان هذا المسلك في بداهة العقل إلا أنهم لا يتوقفون عن طرحه وتكراره والمنافحة عنه.

وقد جرت طريقة العلماء المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة في الرد على هذا السؤال بإبطال تسلسل العلل والأسباب إلى مالا نهاية عن طريق إنكار إمكان وقوع مفهوم المالانهاية أصلاً، ولهم أساليب عقلية مثل برهان التطبيق وغيره. لكن الصحيح أن مفهوم التسلسل اللانهائي في الماضي لا إشكال فيه، إنما تسلسل العلل إلى مالا نهاية هو المشكل غير المقبول عقلاً. فإن تصور سلسلة من الأسباب كل فرد فيها هو نتيجة ومعلول لما قبله تمتد إلى مالا نهاية في الماضي، فهذا يعني أنه لا وجود لسبب حقيقي أصلاً؛ لأن أفراد السلسلة كلهم مفتقرون إلى علة أو سبب أو خالق، فأين الخالق الحقيقي إذن؟!

لهذا نقول إنه بفرض وجود هذه السلسلة من العلل، فإنها لابد أن تنتهي إلى سبب أول حقيقي ليس له سبب حتى يصح معنى العلية أو السببية، ويضرب بعض العلماء لهذا الأمر مثالاً لتقريبه إلى الأذهان: تخيل أن هناك سلسلة معلقة في الفراغ، وكل حلقة من هذه السلسلة معلقة من الحلقة التي تعلوها، وهكذا إلى أعلى. في الحقيقة فإن هذا التعلق لا يمكن أن يكون لانهائيًا، بل لابد من وجود سقف ثابت تنتهي إليه هذه السلسلة، وإلا لو كانت السلسلة عبارة عن حلقات فقط لسقطت على الأرض ولن تمتد إلى أعلى؛ لأن وجود شيء حقيقي تتعلق منه السلسلة دون أن يعتمد على غيره هو السبب الوحيد لاستمرار تعلق كل هذه الحلقات.
وبعض العلماء يضرب لهذا الأمر مثالاً أوضح: هو مثال الأصفار المتتالية، فمهما تراصت الأصفار إلى بعضها البعض فلن تضيف أي قيمة، بل وجود أي رقم آخر هو الأمر الوحيد الذي يجعل للأصفار على يمينه قيمة ومقدار، فتعدد الأصفار ولو كان إلى ما لانهاية لا يعني أي شيء، لكن وجود رقم واحد (من واحد إلى تسعة) يجعل لهذه الأصفار قيمة ومعنى ومقدارًا.

لكن في واقع الأمر فإن حتى وقوع هذا التسلسل باطل عقلاً، لماذا؟ لأنه إذا افترضنا أن هناك شيء يحتاج في وجوده إلى غيره ليمنحه الوجود، فإن هذا الغير لابد أن يكون قادرًا على منح الوجود ولا يمكن أن يكون معتمدًا في وجوده على غيره، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولو كان موجد العالم لا يملك إيجاد نفسه، بل يحتاج في وجوده إلى غيره، فهو لا يملك بقياس الأولى أن يوجد غيره؛ فمن لا يقدر على إيجاد نفسه أو يفتقر في وجوده نفسه إلى سواه، لا يقدر بالأحرى على إيجاد غيره.

نستنتج من هذا أن خالق هذا العالم لا يمكن أن يكون ممكنًا من الممكنات المفتقرة في وجودها إلى غيرها، بل هو متصف بوجوب الوجود، أي أن وجوده واجب وضروري لا يفتقر إلى سواه، وبالتالي لا يصح في جنابه السؤال عمن خلقه كما لا يصح السؤال عن بيضة الديك أو زوجة الأعزب، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى.

لأجل هذا يجيب الكثير من العلماء والدعاة عن هذا السؤال بأن ذات الله ليست كذوات المخلوقات المفتقرة إلى خالق، لهذا لا يصح هذا السؤال في حقه تبارك وتعالى، فمثلاً يطرح الداعية الإسلامي الهندي الشهير د. ذاكر نايك سؤالاً مماثلاً: إذا قام صديقك جون بولادة طفل في المستشفى، هل تستطيع أن تعرف إن كان المولود ولدًا أم بنتًا؟ وبعد تخبط أحد الحضور في محاولة إجابة السؤال، يخبره د. نايك بالخدعة التي قام بها وهي أن جون ذكر لا يمكنه الولادة، وأن السؤال عن مولوده إن كان ذكرًا أو أنثى عبارة عن سؤال في غير محله إطلاقًا، كذلك الله عز وجل ليس مخلوقًا أصلاً، فكيف يصح السؤال عمن خلقه؟![1] كذلك الدكتور محمد العوضي ينكر على من يسأل هذا السؤال بأنه يخلط بين صفات الخالق وصفات المخلوق، وأنه مثل من يخلط بين صفات الباب وصفات النجار الذي صنعه.[2]

لكن الحقيقة أن تقرير هذه التفرقة بين صفات الخالق وصفات المخلوق يحتاج إلى مقدمة لتوضيح سبب وجود هذا الفرق ولماذا نعتقد وجود فرق بين صفات الله وذات الله وبين صفات المخلوقات وذوات المخلوقات، وهو ما ذكرناه في بيان افتقار المخلوقات إلى من يمنحها الوجود، وأن مانح الوجود لا يمكن أن يفتقر في وجوده إلى غيره، لأنه لو كان مفتقرًا لما استطاع منح المخلوقات وجودها أبدًا، ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن كان مفتقرًا في وجوده إلى سبب أعلى منه لا يقدر بداهة على منح وإعطاء الوجود لغيره. وبالتالي فإنه مع علمنا بافتقار المخلوقات إلى خالق، فنحن نعلم أن هذا الافتقار لا يمتد إلى خالقها، بل هو غنيّ عن من سواه غير مفتقر في وجوده إلى غيره، وأن صفاته جل وعلا من هذا الوجه تختلف عن صفات مخلوقاته.

ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أنه من الأخطاء التي يقع فيها كثيرٌ من العاملين في الرد على الإلحاد عند الجواب عن هذه الشبهة أنهم يقولون إن الله خارج الزمان، وإنه خالق الزمان هكذا بإطلاق، ويبنون على هذا الأمر تقريرات متعلقة بأزلية الله تعالى وكيفية هذه الأزلية. وهذا مسلكٌ بعيدٌ عن الصواب، يقول ابن تيمية: ((إن الزمان قد يراد به الليل والنهار كما يراد بالمكان السموات والأرض، فبهذا الاعتبار فإن الله منزه عن الزمان والمكان، بل هو خالقهما .. وقد يراد بالزمان مجرد التقدير بالحوادث كما يقال: هذا قبل هذا بكذا وكذا وهذا بعد هذا بكذا وكذا. فيكون المراد به تقدير ما بين الحوادث بحوادث أخر، وهذا ليس أمرا موجودا في الخارج لجوهر قائم بنفسه أو عرض قائم فيها … وهذا موضع تغلط فيه الأذهان حيث يشتبه عليها ما يأخذه الذهن من الحقائق الموجودة في الخارج بنفس الحقائق الموجودة في الخارج، كما يشتبه على بعض الناس الصور الذهنية الكلية المطلقة أنها توجد في الخارج، حتى يظن أنها بعينها موجودة في الخارج))[3].

فالمقصود أن الزمان في حقيقته ليس كيانًا وجوديًا، بل هو مجرد مفهوم اعتباري يشير إلى تتابع الأحداث، فإن كانت هذه الأحداث حوادث مخلوقة جاز القول إن هذا الزمان (المتعلق بالمخلوقات) مخلوق، لكن إن كانت هذه الأحداث أفعالاً لله تعالى، فلا يصح عندها أن نقول إن هذا الزمان مخلوق. والتحقيق هو أن الزمان مفهوم اعتباري وليس كيانًا وجوديًا له وجود في الخارج، فلا نطلق عليه القول بأنه مخلوق أو غير مخلوق إلا باعتبار ارتباطاته وتعلقاته، وقد أشار ابن القيم في النونية إلى هذا بقوله:

والزمان نسبة حادث إلى حادث :: :: تلك حقيقة الأزمان

وهذا طبعا خلاف ما تقرره النظرية النسبية لأينشتين التي جعلت الزمن بعدًا رابعًا في الكون وجعلت له وجودًا ماديًا في النموذج المعياري الحديث للكون المعروف باسم الزمكان، ونحن لا مانع لدينا من تبني نموذج الزمكان بشرط ألا ينسحب تطبيقه على خارج هذا العالم، ولا يصح أن نقول مثلا إنه لا وجود للزمان خارج العالم وإن الله خارج الزمان وغيرها من التقريرات المشكلة عقديًا وعقليًا، والله أعلم.


[1] يوتيوب : من خلق الله ؟ – رد مُذهل من ذاكر نايك

https://www.youtube.com/watch?v=BzFPpezZn6g

[2] يوتيوب : من خلق الله ؟؟؟ جواب قوي جدا يقهر كل ملحد

[3] ابن تيمية ، بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ، ج1 ص297-299 باختصار وتصرف

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد

‎مؤخرة الموقع