ما الدليل على صدق فطرة الإيمان؟

image_printطباعة وتحميل هذا المقال

مع استدلالنا بفطرة الإيمان بالله في وجوده سبحانه تعالى يطرح الملحد والمخالف السؤال التالي: ما الدليل على صدق الفطرة؟ الفطرة في نهاية الأمر حاسة أو قوة داخلية ، فكيف تكون دليلاً على وجود الخالق؟ ألا يمكن فعلاً أن تكون وهمًا ليس له وجود خارج الذهن؟

فالجواب على هذا السؤال أن صدق الفطرة يكون في استعمالها واختبارها والتأكد من صلاحيتها من عدمها، كما يتأكد المرء من صلاحية آلة معينة باستعمالها. فالعقل عندما يستعمل البديهيات في إصدار الأحكام العقلية يدرك أن موضوعات أحكامه هي بالفعل كما يحكم عليها، وأن الثلاثة أصغر من العشرة في الواقع كما هي في عقله، وأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان في الواقع الخارجي كما يحكم عقله وتقضي البديهيات، وهكذا .. حتى يذكر بعض العلماء أن الانسجام الحاصل بين بنية عقولنا وبنية الكون هو دليلٌ بارزٌ على وجود الله تعالى وخلقه العالم والعقل الإنساني بطريقة متوافقة متناغمة بشكل يؤدي إلى قدرة عقولنا على فهم العالم من حولنا.

ونفس المسألة في الغرائز الفطرية تجدها عند الاستعمال والتفعيل والتطبيق تؤدي إلى هداية المخلوق لما هو خيرٌ له في الحياة والمعاش، فغرائز الجوع والعطش وهجرات الطيور والحيوانات والحشرات وبناء أعشاش النمل والنحل والزنابير والعناكب وشرانق الفراشات ومهارات الافتراس والتخفي من الأعداء وغيرها تجدها عند استعمالها من المخلوق لا تؤدي إلا ما فيه نفعه ومصلحته وهدايته للخير. وسأضرب مثالاً لهذه الأفعال الغريزية في الإنسان ردود الأفعال البدائية الموجودة في حديثي الولادة Newborn Reflexes، ومن أشهرها عند أطباء الأطفال ما يُعرف باسم رد فعل التقام الحلمة rooting reflex  وهو التفات الطفل حديث الولادة بفمه ووجهه عند يلمس أحدهم خده، فإذا لمست خده الأيمن أدار وجهه جهة اليمين وفتح فاه، وإذا لمست الخد الأيسر أداره يسارًا وفتح فاه، وفائدة هذا الفعل هو أنه غريزة بدائية يولد بها الطفل تساعده في العثور على ثدي أمه والتقامه. وأشهر من هذا ما يعرف باسم رد فعل الرضاعة suckling reflex وهو قيام الطفل بممارسة فعل المص والرضاعة عندما يوضع أي شيء في فمه، وفائدة هذا الفعل هو حصول الطفل على اللبن عندما يوضع الثدي في فمه. وهناك العديد من هذه الأفعال اللاإرادية الموجودة في حديثي الولادة تصفها الكتب الطبية المتخصصة، وإنما ضربت بها المثل لوضوح دلالتها على مرادي وهو أن هذه الأفعال الغريزية المركوزة في الفطرة عند استعمالها وتطبيقها تخدم الكائن الحي بشكل لا تستقيم الحياة بدونه ، وإلا فكيف يعيش الوليد دون أن يلتقم ثدي أمه ويرضع اللبن؟ فهذا دليل على صلاحية الغرائز الفطرية عند التطبيق والتفعيل، وأنها محل ثقة في جلب الخير للمخلوق حتى ذكر العلماء في تفسير قوله تعالى: {والذي قدّر فهدى} أن معنى “هدى” هو الهداية الغريزية الفطرية التي ركبها الله في المخلوقات، إذ المراد هاهنا الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه، وهو نظير قوله تعالى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، فإعطاء الخلق إيجاده في الخارج، والهداية والتعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه. فإن الآية شاملة لهداية الحيوان كله ناطقه وبهيمه  وطيره ودوابه، فصيحه وأعجمه.

كذلك القيم الأخلاقية الفطرية تظهر مصداقيتها عند استعمالها، هل تجلب الخير والمنفعة والمصلحة أم تؤدي إلى العكس. تصّور مجتمعًا لا يرى بالكذب بأسًا ولا يعدُّه مذمَّة، فالناس فيه كلهم كذابون، هل يكون في هذا المجتمع علم؟ كلا! فإن من ضرورات العلم الصدق في الرواية، فإذا ادَّعى إنسان في هذا المجتمع أنه اكتشف في مختبره حقيقةً علميةً ما، فإننا لن نصدقه، لأننا لا نعلم إن كان صادقًا أو كاذبًا، بل سنقطع بكذبه إذا وجدنا أن هذه الدعوى تخدم غرضًا له. ولن تكون هنالك كتب ولا دروس ولا محاضرات ولا مدارس ولا جامعات. ما الفائدة من قراءة كتاب لا نعلم إن كان صاحبه صادقًا أو كاذبًا، ولا أستطيع أن أستعين بغيري لأنه هو الآخر قد يكذب علي؟ وقل مثل ذلك عن المدرسين والمحاضرين، وقل مثله عن رواة الأخبار في سائر وسائل الإعلام، وقل مثله عن التجار والزراع والصناع، كيف تتعامل مع أي من هؤلاء إذا كنت لا تدري أصادق هو أم كاذب فيما يدعيه لك من ثمن بضاعة أو جودة محصول أو إحكام صنعة؟ الصدق ليس فضيلة خُلُقية فحسب، بل هو ضرورة اجتماعية أيضًا، وعليه كلما كثر عدد الصادقين في المجتمع كان المجتمع أقوى تماسكا وأدعى لأن تزدهر فيه العلوم والتقنية والاقتصاد إذا ما توفرت شروطها الأخرى . وكلما تفشى الكذب بين حكامه وولاة أمره وعلمائه وتجَّاره وزرَّاعه وصنَّاعه، كان أكثر تمزقًا وأقل تطورًا في تلك الأمور كلها. فالصادقون إذن يُسدُون إلى المجتمع خدمة هي من ضرورات وجوده، والكذابون هم معاول تقويضه. وقل مثل هذا على كل قيمة أخلاقية تجد حسنها في الفطرة. فهذا كله يدل على مصداقية القيم الأخلاقية الفطرية عند التطبيق وأنها سبيل للخير والنفع والصلاح.

يظهر مما سبق مصداقية وموثوقية الفطرة عند التعامل والتفاعل مع العالم الخارجي، وأنها لا تخبر عن أوهام أو ضلالات، وبالتالي فهي محل ثقة في جميع مفرداتها، وأهمها فطرة الإيمان بالله والافتقار إليه سبحانه وتعالى.

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد