التفكر في إتقان الخلق

image_printطباعة وتحميل هذا المقال
يقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. وفي الأثر: (تفكر ساعة خيرٌ من قيام ليلة).

 نعم! إن في خلق السماوات والأرض لآياتٍ لمن يتفكر، والتفكر في الخلق ساعةً خيرٌ من قيام ليلة كاملة، والسعيد من تفكر وتدبر وأمعن نظره وأعمل فكره فيما في الخلق من الإبداع والإحكام والإتقان والدقة والجمال، سواء في خلق العالم أو في خلقه هو نفسه.

 وكلما أمعن الإنسان النظر ظهرت له أسرار جديدة من أسرار هذا الملكوت العظيم والنظام المعجز، مما يدل على أنه لا ساحل لأسراره ولا نهاية ولا قرار. فها نحن نرى الأيام تفنى والعلماء يتتابعون والمفكرون والفلاسفة يجتهدون دون أن يحيطوا علمًا بسر واحد من أسرار هذا الخلق، ودونك الكتب والمؤلفات والرسائل والأبحاث ترى فيها كم من المناظرات في مسألة واحدة حمى فيها وطيس الجدال، ورخصت أمام تحصيلها وتحقيقها النفوس والأوقات والأموال، واجتهدوا فيها أجيالاً بعد أجيال، دون أن يهتدوا إلى سرها أو يقفوا على حقيقة أمرها أو يحيطوا علمًا بكنهها، مثل مسألة الحياة أو الموت أو الوعي أو الأخلاق.

 إنه من يمعن النظر والفكر في خلق الإنسان يعجب كثيرًا مما رُكّب فيه من قوة العقل التي منها استمد كل هذه المخترعات والمكتشفات التي جعلت الجنس البشري يسود كوكب الأرض، ويرتع في رياض الحضارة والمدنية والرفاهية، وهو لا يملك إلا جسمه وبدنه وما حوله من موارد، كسائر قاطني هذا الكوكب من النبات والطير والحيوان.

 وهذه القوة عجيبة من العجائب دائمة العمل لا تفتر ولا تسكن، وهي سبب اختلاف الطبائع والمشارب بين الناس، فمن يتأمل حال الناس يتأكد أن في عقولهم من الاختلاف الشديد والتفاوت الكبير ما لا حد له ولا قدرة على إحصائه.
وهذا العقل المركب في الإنسان يجعله شديد الميل للاطلاع والبحث في غيب السماوات والأرض، ويدفعه للتحصيل والدأب وتتبع إبداع هذا العالم المعجز حتى أنه يخوض في سبيل ذلك المهلكات في الصحاري والثلوج وقمم الجبال وأعماق البحار.

 ومن هنا يتضح لنا سبب الضجر الذي يعاني منه أكثر البشر في عصرنا هذا، فهم يسعون دومًا لكل جديد ومبهر ومثير يمكن أن يوصلهم إلى حقيقة هذا العالم وحقيقة وجودهم، حتى إذا عجزوا تجدهم يلجأون إلى الخرافات والأساطير والخيال العلمي كمسكن لنفوسهم القلقة وأرواحهم المعذبة، ويعمدون إلى ما يلهي عقولهم في الأغاني تارة وفي الخمر والمخدرات تارة أخرى وفي ألعاب الفيديو تارة ثالثة وفي القصص والروايات الخيالية تارة رابعة وفي الأفلام والمسلسلات تارة خامسة وفي شهوات البطن والفرج تارة سادسة وهكذا.

 لكن لو وقف الإنسان مع نفسه وقفة صادقة وتأمل في حاله بصدق وإخلاص لعلم أنه إنما يضيع عمره وعقله وبدنه وماله فيما يضره ولا ينفعه.

 إن اللذة الحقيقية تكمن في التفكر والتدبر في بدائع خلق الله تبارك وتعالى ومشاهدة ما فيها من العجب العجاب، وإن السعادة الحقيقية تكمن في إدراك آيات الحكمة الإلهية الباهرة في هذا الخلق البديع والمعجز. وفي هذه العجائب واكتشافها وسبر أغوارها وتقصي أسرارها من المتعة والسرور ما لا يدرك بسواها، ألا ترى كم من عالم يعرض نفسه للهلاك أثناء استجلائه أسرار الطبيعة؟ وكم من عالم يركب متن الأسفار إلى أقاصي الأرض التي يعلم جيدًا أن مناخها قد يضره ليكتشف سرًا جديدًا من أسرار الطبيعة التي لا تنتهي؟ أليس تعريض نفسه للمهلكات يدل دلالة واضحة على أنها غايةٌ تُقصد وهدفٌ يُرتجى؟

 هل أعمال السحرة والحواة أغرب للعقل وأعجب للفكر من إلقاء بذرة في الأرض لتصبح بعد ذلك شجرة ذات أفنان وورق وزهر وثمر تظلنا ونشم ريحها ونأكل جناها؟
وهل أضواء القصور أبهج للقلب وأجمل من النظر إلى قبة السماء الزرقاء واجتلاء ما فيها من النجوم والأجرام على مختلف أنواعها وأشكالها؟
وهل ماكينة الصرافة التي تضع فيها بطاقة البنك فتخرج لك أوراق النقد بمختلف فئاتها من الخمسة والعشرة والعشرين والخمسين والمائة أرقى وأكثر تطورًا من جسم الطفل الصغير الذي يأكل الطعام فيصير لحمًا ودمًا وجلدًا وظفرًا وشعرًا، بل وسمعًا وبصرًا وفكرًا ومشاعر؟

 لا والله! لا تعد صنائع البشر مهما تطورت وارتقت ودقت وأتقنت إلا عيًا وركاكةً أمام صنائع المولى تبارك وتعالى في ملكوته الباهر العظيم، إن ربك هو الخلاق العليم!

‎أضف رد

I don't publish guest or sponsored posts on this site. But thanks anyway. :)

:

‎بريدك الإلكتروني لن يظهر لأحد

‎مؤخرة الموقع